الخامس عشر من فبراير 2017 يوم لقاء ترامب ونتنياهو في البيت الأبيض انتهى بمؤتمرا صحفيا استعراضيا أكد ترامب من خلاله "أن حل الدولتين ليس الوحيد لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وأنه سيعمل لتحقيق السلام بين الجانبين، ستشجع الولايات المتحدة التوصل لاتفاق سلام، اتفاق سلام عظيما بشكل حقيقي، وأن كان الاختيار بين حل دولة واحدة أو حل الدولتين، فأنا سأكون مسرورا لما يتم التوصل إليه بين إسرائيل والفلسطينيين، سنعمل بجدية شديدة لكن ينبغي أن يتفاوض الطرفان بنفسيهما على هذا الاتفاق بشكل مباشر، وأنه يجب على الإسرائيليين أن يبدو مرونة من أجل التوصل لاتفاق، وأن يثبتوا بأنهم يريدون التوصل لاتفاق، وندد بتدابير الأمم المتحدة (الظالمة وأحادية الجانب) تجاه إسرائيل (المقصود قرار مجلس الأمن الدولي الذي يدين الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة)، وأنه لن يسمح أبدا لإيران بحيازة السلاح النووي، وأن الاتفاق النووي الإيراني هو من أسوأ الاتفاقات، وأنه سيقوم بالمزيد من العقوبات لمنع إيران بشكل بات من أن تطور سلاحا نوويا".
باختصار شديد، أبسط ما يقال حول هذه التصريحات، أو إن شاء البعض رسائل، أنها قد جاءت متناقضة ومتنكرة، ودون أي لبس، مع الرأي العام العالمي ومواقفه من مسألة الصراع في المنطقة، ناهيك وهذا الأخطر، أنها قد تجاهلت تماما قرارات الأمم المتحدة ذات العلاقة، ونسفت كل مرتكزات عملية السلام في المنطقة.
مخطئ وواهم من كان يتوقع أن تكون مخرجات هذا اللقاء من قبل "ترامب" غير تلك التي خرجت، ليس لان "ترامب" الجمهوري هو سيد البيت الأبيض الجديد، وليس لان "ترامب" كان يريد تأكيد التزامه بما وعد حول مسألة الصراع في المنطقة خلال حملته الانتخابية وحديثه عن "الصفقة الكبرى في المنطقة"، علما بأنه قد سبق خروج متحدث باسم البيت الأبيض ليعلن أن حل الدولتين ليس الحل الوحيد بالضرورة في تنسيق كامل مع تصريحات "ترامب)، وهو بالنهاية توجه يقصد به تخلى إدارة "ترامب" عما تبنته الإدارات الأمريكية السابقة، بما يسمى "حل الدولتين"، وما يعنيه من ضرورة إقامة دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي التي احتلت في العام 1967 بما فيها القدس الشرقية.
لم يكن "ترامب" ليقول ما قال، وخصوصا حين شكك في "إمكانية نجاح حل الدولتين في المنطقة "، ولكنها سياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة جمهورية كانت أم ديمقراطية بما فيها إدارة "اوباما" كانت تغض الطرف عن الممارسات الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكانت تسلط سيف حق النقض الفيتو كلما لجأ الفلسطينيون إلى الأمم المتحدة، وكانت ترفض بإصرار الاعتراف بالدولة الفلسطينية، بل أنها قاومت بشدة ومارست التهديد والوعيد لدى طرح مسألة الاعتراف بدولة فلسطين كدولة مراقب، وتبنت الشرط التعجيزي الإسرائيلي بضرورة اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بيهودية دولة إسرائيل، ورفضت بشدة إرسال مراقبين دوليين إلى الأراضي الفلسطينية، كل ذلك في إطار من المناورة والمماطلة والتسويف الهادفه لمنح إسرائيل المزيد من الوقت لاستكمال مشروعها الاستيطاني من ناحية، ومقاومة الشرط الفلسطيني بوقف أعمال الاستيطان لاستئناف عملية التفاوض وما يعنيه من تحميل الجانب الفلسطيني مسئولية تعطيل المفاوضات من ناحية أخرى.
مخطئ وواهم أيضا من كان يتوقع أن تكون مخرجات هذا اللقاء من قبل "نتنياهو" غير تلك التي خرجت حين أطلق العنان لمشاريعه الاستيطانية العنصرية، وحين استمر في مسلسل التحريض الممجوج الذي لا ينتهي ضد الشعب الفلسطيني، و حين واصل اشتراطاته التعجيزية لحل الصراع في المنطقة، وحين اشترط سيطرة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية، وحين اشترط الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، وها هو "نتنياهو" نفسه يصرح من استراليا جهارا نهارا وعلى رؤوس الأشهاد يوم الأربعاء 22/2/2017 خلال مؤتمر صحفي مع نظيره الاسترالي وبالنص: "لن تقوم دولة فلسطينية، وما اطرحه للفلسطينيين هو حكم ذاتي فقط".
لقد جاءت مواقف "نتنياهو" متطابقة تماما مع الموقف الرسمي الإسرائيلي، فهو لم يخرج عن النص من حيث مواقف كل الحكومات السابقة منذ اغتيال إسحاق رابين في نوفمبر 1995، فالكل يؤكد على مسألة شرعنة الاستيطان، ويرفض قيام الدولة الفلسطينية تحت ذرائع وشروط تعجيزية، ويرفض التعاطي مع مبادرة السلام العربية، ويستثمر الوقت لفرض الوقائع على الأراضي الفلسطينية، كما جاءت مواقف "نتنياهو" متناغمة تماما مع موقف رئيس المعسكر الصهيوني وزعيم المعارضة الإسرائيلي "هيرتسوغ" الذي عرض خطة سلام تقوم على حل الدولتين مقابل ضم الكتل الاستيطانية الكبرى ومفاوضات مباشرة بعد (10) سنوات. لربما قد لا نبالغ إذا قلنا أن هذه المواقف الإسرائيلية الرافضة والمتنكرة للحقوق الوطنية الفلسطينية لم تكن لتصدر لولا استمرارنا في عملية التفاوض منذ أوسلو وحتى اليوم، ولولا أن سقف ردود أفعالنا لم يتجاوز الشجب والاستنكار والتنديد للممارسات الإسرائيلية.
مخطئ وواهم من كان يتوقع أن تكون مخرجات اللقاء غير تلك التي خرجت، خصوصا ونحن ندرك تماما ما يعانيه نظامنا السياسي من أزمات كثيرة، وحين تغيب مشاركة الكل الفلسطيني الحقيقية في صناعة القرار السياسي، وحين تستمر آفة الانقسام السياسي والجغرافي والبرلماني والقضائي المشين، وحين تتحدث بعض الأطراف عن إقامة دولة في غزة، وحين نعلم حجم ما يعانيه شعبنا من أزمات اقتصادية ومعيشية وإنسانية (الفقر، والبطالة وانتهاك لحقوقه وحرياته الأساسية) بسبب تركيز القيادة السياسية على ملف التفاوض على حساب الملفات الداخلية ذات العلاقة بقضايا وهموم وحاجات الناس التي تعزز صمودهم، وحين تكون راية الفصيل، مع شديد الأسف، أكبر بكثير من علم فلسطين، وحين يتم تقريب الثقات ويتم تغييب الكفاءات عند اختيار من يشغل مواقع صناعة القرار، وحين يتم تغييب الشباب عن مواقع صناعة القرار ..... الخ.
نقول وبصوت مرتفع للقيادة الفلسطينية ولكل القوى الوطنية والإسلامية على الساحة الفلسطينية بعد (24) عاما على التوقيع على اتفاقية أوسلو، وبعد (26) عاما من المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي، وبعد (12) عاما على تقلد الرئيس عباس رئاسة السلطة الفلسطينية، وبعد (69) عاما على الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة، نقول أن منهج وثقافة استخلاص العبر غائبة ومفقودة لدينا وهى مرتكز أساس لتصويب المسار تجاه تحقيق الأهداف، نقول، وإن كنا بالمناسبة قد تأخرنا كثيرا في ذلك، من المهم سرعة استخلاص العبر، قبل أن يتم إطلاق رصاصة الرحمة على إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة في الأراضي الفلسطينية، فهل من مجيب ؟؟؟؟؟!!!!
بقلم/ د. يوسف صافى