إنّ ما تحصده الأنفاق الفاصلة بين مدينة رفح الفلسطينية جنوب قطاع غزة ومدينة سيناء مصر يوميًا أو بين فترات متفاوتة ليس هو الموت فقط سواء من ضرب الطائرات الصهيونية وقصف الأنفاق أو عبّر الرش بالغاز من الجيش المصري تارة والإغرااق بالمياه ترة خرى، بل أيضًا من حالة الإستغلال الجسدي والمادي، وكذلك حاجة الشباب الذي يعاني من أزمات اقتصادية ومادية خانقة تجبره صاغرًا على الاختيار بين الأمرين أو بين الشرين، شر الاستغلال أو شر الموت.
كثيرًا من شعوبنا العربية وأبناء جلدتنا يستهزئ أو يسخر بأن المتحدث إليه يسرح شارحًا في معاناة فئة العمال وإنّها الفئة الأكثر أو الأهم أو حتى الأوحد الّتي تستحق المساعدة في هذه المرحلة، وليس كلّ العمل بل آولئك الذين لا يمتلكوا شبكات التواصل أو ثمن هاتف خليوي ليتسولوا منه عبّر الإنترنت، وكذلك ليس الأيتام لأنّ هذه الفئة لديها عشرات بل مئات الجمعيات الّتي تقوم بواجب التسول وجمع الأموال باسمها، وليس ذوي الإحتياجات الخاصة لأنّ هذه الفئة أيضًا تتمتع بشبكة عديدة من جمعيات ومؤسسات التسول باسمها، وكذلك ليس الأرامل أو أبناء الشهداء لأنه ينطبق عليهم ما ينطبق على غيرهم من الفئتين السابقتين بما أنّهما الفئات الأكثر خصوبة في إسالة لعاب من يتحدثون باسمهم وكذلك من يتقربون للجنة ” كافل اليتيم“ وغيره. في ظلّ هذه المعمعة وهذا التضليل والغيبوبة تتبقى فئة على هامش المرحلة والزمن والهم هي فئة العمال الّتي كلّ ما تفعله النقابات المسماه باسمها والمتحدثة باسمها إنّها تحقق مكتسبات شخصية للقائمين عليها فقط ، وللمتسلقين باسم العمال كما الحال بالأسرى، فجل ومعظم هؤلاء لديهم وظائف بدرجة مدير عام أو مديرمتعدد المواهب العمالية، وستطاع أنّ يستحصل باسم العمال على منح تعليمية له ولأبنائه فحصل على أعلى درجات العلم، ولديهم تذاكر سفر مفتوحة للسياحة والتنزه بين عواصم العالم تارة لحضور المؤتمرات وأخرى لندوات وناهيك عن أدوات التحايل باسم العامل الذي يتناول فيه ممثلة كؤوس الرفاهية والرغداء وهو يدفن تحت التراب جوعًا، أو تحت الإنحراف أيضًا جوعًا أو ممارسة الإنطواء جوعًا كذلك، وأضعف الإيمان الإذلال إنّ تعرض للمرض للحصول على علاج شبة مجاني أو التسول على أبواب جمعيات الأرزقية.
يحضرني هنا لقاء صحفي إذاعي مع أحد جهابذة ممثلي نقابات العمال وكن حماسيًا وهو يطالب العمال بالتحرك والإحتجاج على أحوالهم، وعندما تم الرد عليه بالقول أنت مطروح منذ الخليقة الثورية أمامنا قائد عمالي نقابي ولديك درجة وظيفية أقرب من مدير براتب مرتفع جدًا، وحصلت على منح تعليمية باسم العمال حتى نلت لقب دكتور لمذا لا تخرج أنت وتقود العمال للإحتجاج؟ وكيف لك أنّ تخرج وأنت تدرك أنّ خروجك سيحرمك ممّا تستحصل عليه من امتيازات، فكان رده إنّ خرجت سأتعرض للمخاطر، فرديت مرة أخرى إذن فلماذا تتحدث باسم العمال ألم تحقق كلّ ذلك باسمهم؟ بعد انتهاء اللقاء جائني اتصل من أحد القيادات الحزبية ينقل لي الشكوى الّتي تقدم بها هذ النقابي عن ما دار باللقاء يطالبني بالإعتذار وهو ما لم يحدث ولن حدث.
هذه معضلتنا الأساسية، فالأنفاق هي عمل بالتصنيف والتشريع القانون المتعارف عليه (غير قانونية) لأن القانون لا ينظم عمليات التهريب بأيّ حال من الأحوال، وه عملية شُرعت نظير ظروف خاصة لقطاع غزة بعد عام 2006 والحصار لذي فُرض عليها، فتم ابتدع الأنفاق لتهريب البضائع والإحتياجات والمتطلبات الحياتية من سلع ومواد بعدما منعت دولة الكيات إدخالها للقطاع عبر الطرق الرسمية، فأصبحت الأنفاق هي ملاذ فئات عريضة من الشباب الذين قطعت بهم أوصال السبل الحياتية، ولم يجد مصدرًا للدخل والحياة، وهي بأغلبها أيّ الأنفاق تعود لبعض المستثمرين الكبار أو المهربين حيث يعمل بها العامل وفق أجر زهيد لا يمكن له بأي حال أن يضاهي درجة الخطورة المحاطة بهذا العمل الذي في حال أيّ خطر إما الموت أو الإعاقة، وهي أقرب لمفهوم(سخرة اختيارية) تحت طائلة الفقر ولحاجة وقلة الحيلة. وعليه فإن هذه العملية المعقدة لا زالت تراوح بين التشريع المبطن والخطر المحدق، والتجاهل المتعمد، فهي ليست مشروعة وليست محظورة ولا يعاقب عليها المهرب أو المستثمر أو العامل ورغم ذلك ورغم كلّ الكوارث والقتل والموت الذي لحق بمجتمعنا وشبابنا من هذه الأنفاق فإنّها لا زالت تفتقد لأيّ عملية تنظيم أو تقنين أو لتشريع قانون وضع لحظي يكفل هذا العمل القاتل، رغم وجود لجنة أنفاق تتبع أعتقد - قوات الأمن الوطني- في غزة ولكن هذه اللجنة كلّ مهامها فض النزعات بين كبار الإستثمار والتهريب.
دولة الكيان الصهوني تتهم الأنفاق أو أصحاب الأنفق بتهريب الأسلحة ولممنوعات لقوى المقاومة، ومصر تتهم ألأنفاق بالمس بالأمن المصري في سيناء، والمجتمع يتهم أولياء الأمر بالدفع بأبنائهم للموت دفنًا، ولكن من يتهم المقصرين بحق شبابنا وخاصة عمالنا؟ بين مجموعة الإتهامات والأطراف الثلاثة يبقى العامل البسيط المغلوب على رزقه ولقمة عيشه ضحية الجميع، وكذلك ضحية المستثمرين وأصحاب الأنفاق الذين يتنكروا له، وضحية النقابات العمالية التي تمارس الخرس أمام معاناة العمال.
بكلِّ الأحول أنا على ثقة وقناعة تامة أن الأنفاق عمل غير شرعي، وأن فرضتها الظروف في مرحلة معينة، ورغم عدم شرعيتها ولكنها تعمل تحت مرآى ومسمع الحكومة في غزة، ولذلك لابد أنّ تقوم الأخيرة بتصويب حقوق هؤلاء العمال وسن تشريعات طارئة تحميهم وتحافظ عليهم، وهو أحد الحلول المؤقتة غير الناجعة، فالحل الأمثل إنهاء ظاهرىة الأنفاق ومحاربتها لأنّ مخاطرها أكثر بكثير من فوائدها في هذه المرحلة بعدما يسرت المعابر الرسمية الكثير من الأمور المستعصية، وكذلك دور الحكومة أنّ توجد المخرجات المجتمعية الآمنة في ظلّ حالة الإنفراج الكبير عن الحالة السابقة، فالأنفاق مهما تمت السيطرة عليها إلَّأ أنه لا يمكن كف أذاها وجشع القائمين عليها من تهريب الترامادول والمواد المخدرة والسلع المسرطنة فالتاجر لا يفكر إلَّا بالرصيد فقط، وكذلك على النقابات العمالية والجمعيات الخيرية أنّ تضيف بند في طياتها وبرمجها التسولية (فئة العمال) وإنّ لم يصل لهم الكل سيصل لهم الجزء أضعف الإيمان، كذلك شعبنا عليه النظر للعمال ... فهذه الفئة الوحيدة الّتي دفعت وتدفع ثمن الإنقسام بأرواحها ولقمة أسرها.
د. سامي محمد الأخرس
26 شباط (فبراير)2017
samiakras@ gmail.com