لا شك بأن قرار عدم السماح للواء جبريل الرجوب أمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح وإعادته على نفس الطائرة التي أوصلته العاصمة المصرية القاهرة، له دلالات ليست عابرة ومن المفيد التوقف عندها.
هنا لابد من الإشارة بأنه من الجدير ذكره بأن العاصمة المصرية القاهرة باتت تعيش مرحلة الإستعداد للحصاد بعد مواجهتها صعاب أمنية وتحديات إقتصادية كبيرة وتحقيقها بعض النجاحات في هذا المضمار من جهة ومن جهة أخرى نجاحات أمنية.
لذلك هي تدرك بأنه للإستمرار في تحقيق ذلك، هناك عوامل مهمة تحتاج القاهرة لترتيبها ومنها الملف الفلسطيني بكل جوانبه، خاصة أن مصر تعتبر نفسها هي الراعية الرئيسية لهذا الملف والأمينة عليه تاريخياً ، وأن حدودها مع قطاع غزة لابد أن تكون آمنة على الدوام كون أن هذا الأمر يتعلق بأمنها القومي الإستراتيجي .
هذا عوضاً عن أن التحديات الأمنية في سيناء كبيرة وبلغت مستويات لا يمكن السكوت عليها أو القبول بإستمرارها بالنسبة للدولة المصرية ، ولذلك كان هناك مؤخراً حراكاً مصرياً يرتكز على ضرورة تحسين العلاقة مع قطاع غزة إدراكاً منها لأهمية تخفيف الحصار والضغوطات على أهل هذا القطاع لمواجهة هذه التحديات الأمنية الكبيرة التي تواجهها في سيناء.
كما أنه كان للقاهرة دور رئيسي في تشكيل لجنة رباعية عربية تتألف من المملكة العربية السعودية، جمهورية مصر العربية ، المملكة الأردنية الهاشمية ، دولة الإمارات العربية المتحدة ، والتي كانت إجتمعت بدورها مع عدد من أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح السابقة، تحت عنوان "إستعادة وحدة الصّف الفلسطيني"، وهو مصطلح كان يُقصَد به الشّأن الداخلي في حركة فتح، ولاحقاً علاقة منظمة التحرير الفلسطينية بحركة حماس ، ولكن هذا الأمر إصطدم بتحدي من القيادة الفلسطينية التي رفضت التعاطي مع مطالب هذه اللجنة في حينه.
لذلك لا يمكن إغفال الموقف السلبي الذي إتخذه اللواء جبريل الرجوب من ملف المصالحة الفتحاوية - الفتحاوية التي باتت تمثل لمصر مصلحة قومية لا يمكن تجاهلها أو تخطيها، كما أنه لا يمكن المرور مر الكرام على مثل هذه الحادثة وكل ما يتعلق بها من حيثيات سابقة ، مثل تصريحات الرئيس الفلسطيني محمود عباس التي أدلى بها خلال خطابه أمام المؤتمر السابع والتي كانت توحي بأنه كان يطلق التحديات الواضحة للموقف المصري، لا بل أن الرئيس عباس ذهب بعيداً في التحدي وتحدث وكأنه رئيس لدولة عظمى لا يمكن لأحد أن يفرض عليه أي شئ أو يمارس عليه أي ضغوطات، وهذا ما يراه الآخرين بأنه يتنافى مع واقع الحال في أمور أخرى!.
من هنا يبدو بأن القاهرة لم تكن متعجلة في ردها على كل تلك التراكمات التي لا تتناسب مع مكانتها ودورها، لذلك قررت على ما يبدو قبيل زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى واشنطن لمقابلة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المقررة في مارس، بأن ترد الصاع صاعين وأن تضع النقاط على الحروف بالنسبة للعلاقة مع السلطة الفلسطينية وبالتحديد مع منظومة الرئيس محمود عباس، من خلال رسالة قوية من العيار الثقيل جداً مفادها بأنه لا يوجد عندها خطوط حمراء حتى لو كان الأمر يتعلق برموز فلسطينية كبيرة ظنوا بأنهم يمثلون دول عظمى، بل أن الشقيقة الكبرى مصر لن تسمح لأحد أن يخرج عن طوعها، لذلك كان الدرس الأول بهذه القسوة وهو الذي لربما يكون أحد الدروس القاسية المتلاحقة ، من خلال عدم السماح للواء الرجوب بالدخول إلى القاهرة، ولكن في تقديري أنه كان مفيداً لجميع الأطراف التي لابد لها أن تتعاطى في النهاية مع الموقف القائم بمسؤولية وإدراك للمصلحة المشتركة وفهم لحاجة الأطراف مجتمعة لبعضها البعض في ظل التحديات القائمة التي تواجه المنطقة برمتها.
في تقديري أيضاً أن كرامة اللواء الرجوب هي جزء لا يتجزأ من كرامة الشعب الفلسطيني، وأن الشقيقة الكبرى جمهورية مصر العربية تدرك ذلك جيداً، ولكنها أرادت من باب حرصها على هذه الكرامة أن تصحح المسار وتضرب على الطاولة لتجعل المكابر والمغرور والذي يسير في طريق مظلمة، لأن يعيد حساباته ويعود لفكرة الوحدة الوطنية بدلاً من الإستمرار في طريق الإنقسام والتشرذم، وكأنه في كوكب أخر بعيد عن العالم، يحلو له أن يفعل ما يشاء بدون أي عوائق أو محاسبة أو إعتراض.
لذلك لابد من عدم نسيان أن التحديات الإقتصادية والأمنية التي تواجهها القاهرة هي التي جعلتها تبحث في حلول منطقية وضرورية وسريعة وباتت مُلِحَة للغاية، وكان أهمها هو تسوية الملف الفلسطيني الداخلي، كون أن هذا الأمر بات يمثل لها ضرورة قصوى وبالتالي في لم تعد تحتمل أي معوقات أمام تسويته، لذلك حملت العصا الغليظة في وجه الكبار ، ويبدو بأن ضرباتها ستكون موجعة وقاسية ولا مزاح فيها.
من هنا جاء موقف القاهرة مع اللواء الرجوب ليس لشخصه أو من أجل المساس بكرامته، ولكن من أجل تعديل مساره ومواقفه المتعنتة من جهة ومن جهة أخرى لتقول للرئيس الفلسطيني محمود عباس كفى!، وأن القاهرة ليس عنوان كباقي العناوين ولم تعد تحتمل المزيد، فإما الإلتزام برؤيتها وإما الإطاحة بمهابة كل العناوين التي تحيط به حتى يبقى وحيداً بدون مساندة تذكر، فكانت الرسالة قوية له ولكل أعضاء اللجنة المركزية الذين يعارضون الموقف المصري الداعي للمصالحة الفتحاوية الداخلية.
الجدير ذكره أن الدكتور ناصر القدوة عضو اللجنة المركزية لحركة فتح كان قد زار القاهرة الاسبوع الماضي ومعه قيادات فلسطينية أخرى أعضاء في مؤسسة عرفات ولم يمنع أحد منهم من دخول القاهرة ، لا بل لم يكن هناك أي شئ غير طبيعي تخلل تلك الزيارة، مما يعني أن الجانب المصري ممثلاً بالجهة الأمنية التي إتخذت قرار منع اللواء الرجوب من دخول مصر وغالب الظن أنها المخابرات الحربية القريبة من الرئاسة المصرية والتي تحظى بدعمها ورعايتها الكاملة ، أرادت أن تكون رسالتها صارمة لكل من يتحدى توجيهاتها.
في تقديري أنه قد وصلت الرسالة لكل من يهمه الأمر وأعتقد أن الأمر لن يكون عابراً وسيكون هناك تسوية في سياق مراضاة القاهرة والحفاظ على عدم إغضابها، خاصة بأن التقديرات كلها ترجح بأن مصر ستستعيد دورها العربي المركزي والمحوري، وبالتالي لا يمكن لأحد من الأطراف الفلسطينية أن تتجاوزها.