التناقض لغتنا المفضلة

بقلم: أسامه الفرا

مرة أخرى دخل الفلسطينيون في جدل عقيم يتسم بالتناقض الفج حول متابعة برنامج "أراب ايدول"، ووصل الاختلاف ذروته مع فوز يعقوب شاهين ابن مدينة بيت لحم بلقب "محبوب العرب"، مما تسبب في اشتعال مواقع التواصل الاجتماعي بين من اعتبر الحدث بمثابة نصر فلسطيني يتجاوز بكثير بعده الفني، وبين من وضعه في خانة الاسفاف تارة والتكفير تارة أخرى، لنكشف بذلك عن سلوك بات يلاحقنا في تفاصيل حياتنا الدقيقة ويجذبنا اليه دون أن يسمح لنا بالتقاط الأمور على حقيقتها المجردة، بتنا أسرى للتناقض ولا نرى من الألوان سوى الابيض والأسود منها، ومن يمتلك عقلية اللونين "الأبيض والأسود" فإنه يمتهن بشكل لا إرادي تضخيم الأحداث بحيث يراها إما في غاية الروعة أو في غاية السوء، الأمر الذي يظهر وبوضوح ابتعاد المرء عن الواقع والعيش اسيراً لفكرة التصادم.

البرنامج الغنائي استطاع أن يستقطب نسبة مشاهدة عالية في عالمنا العربي، والملفت للنظر أن الزيادة الكبيرة في حجم المتابعين له جاءت في خضم الأحداث الدموية التي تعصف بالعالم العربي، كأن عقل المواطن العربي لم يعد يستوعب مشاهد العنف اليومية التي تأتيه تباعاً من هذا القطر العربي أو ذاك لتغتصب انسانيته، فيبحث عن استراحة يستعيد من خلالها شيئاً من آدميته عبر تمكين قدرته على النسيان اللحظي لحجم المآسي المحيطة به، أو تجده يحاول أن يصنع لذاته نصراً يخرجه من نفق الهزائم، ليس بالضرورة أن يكون طرفاً فيه يكفيه أن يحقق له الغير ذلك نيابة عنه، مرض العجز الذي يفتك بنا دفعنا للتخلي عن أحلامنا الكبيرة، وبتنا نبحث عن شيء نجمل به اخفاقاتنا المتعددة.

فوز يعقوب شاهين بمسابقة الغناء العربي اضافة نوعية إلى سجل فلسطين الفني، وفيه رسالة يجب ألا نخجل منها ونحن نقدمها للعالم بأننا شعب يعشق الحياة لا الموت ينثر المحبة لا الكراهية يهوى الفرح لا الحزن، لديه القدرة على الابداع والتميز في مجالات الحياة المختلفة حتى وإن كانت المعاناة رفيقاً له، ومن غير المنطق في شيء أن يصب البعض جام غضبه عليه وعلى المصفقين له، كأن تميزه في الغناء هو الذي أعاق الفتح المبين، ومتابعة الجماهير له فيها تخلي عن الثوابت الوطنية، نحن بحاجة لأن نضع الأمور في سياقها الحقيقي دون تضخيم أو تقزيم، دون أن نحاول أن نخلق من هذا التميز الفني ما نحجب به اخفاقاتنا، ودون ايضاً أن نحمله مسؤولية فشلنا.

صحيح أن المعاناة تستوطن مفردات حياتنا ولا يلوح في الافق القريب ما يمكن له أن يخلصنا منها دفعة واحدة، ولا يمكن لأحد أن يتجاهل حجم الألم الذي يلاحقنا في كل صغيرة وكبيرة ويبيت معنا ونصحو على وقع أخبار تجلب معها تلبكاً فكرياً نحن بحاجة إلى الكثير من الوقت للتخلص من سمومه، رغم كل ذلك هل علينا أن نقع أسرى ثقافة القبح وأن نتعايش معها بإرادتنا أو رغماً عنا؟، هل نجرم بحق أنفسنا أو نقدم على خيانة الوطن من حيث لا نعرف ونحن نصفق لصور جميلة في اطار فني؟، هل مطلوب منا أن ننفجر غضباً في وجه شاعر راح يتغزل بحبيبته؟، وماذا لو اكتشفنا لاحقاً أن المتيم بها فلسطين بشحمها ولحمها؟.

استضافت مدينة "اكس أون بروفانس" الفرنسية الشاعر محمود درويش قبل رحيله بقليل ليلقي على جمهورها شيئاً من أشعاره رغم عدم معرفة الغالبية من الحضور باللغة العربية، ما أن غادرها حتى جاءت برسام مغربي راح يوثق زيارة درويش إلى المدينة عبر لوحات فنية، كأن مدينة الثقافة والفن أرادت أن تبقيه قريباً من أميل زولا ورائد الفن الحديث "بول سيزان" وخطيب الثورة الفرنسية "ميرابو" الذين عاشوا فيها، تلك المدينة البعيدة ارادت أن تلتقط الجمال في شعر محمود درويش لتتزين به، في الوقت الذي خرج منا من يحث على نبش ارثه الأدبي بحثاً عن "هرطقاته"، مؤكد ان من تتملكه ثقافة القبح لن يبحث عن بواطن الابداع والتميز في مجالات الحياة المختلفة بقدر ما يسعى لتشويه ما هو جميل منها.

بقلم/ د. أسامه الفرا