حواديت ... لا نسمع ولا نعقل

بقلم: أسامه الفرا

عندما صفعت الشرطية التونسية الشاب البوعزيزي صاحب عربة بيع الخضار أمام الملأ، قائلة له بالفرنسية "ارحل"، لم تكن تتوقع أن صفعتها سيسجلها مقياس ريختر على أنها أقوى الزلازل التي تضرب المنطقة، ولم تتوقع السلطات التونسية أن رفضها قبول شكوى الشاب سيؤدي إلى فتح مقراتها على مصاريعها في عملية انهيار لسلطاتها على نمط حجارة الدومينو، ولم يتوقع الشاب ذاته أن النار التي أشعلها في نفسه سينتقل شررها من بلدته الصغيرة "سيدي بوزيد" لتشعل بنيرانها الوطن العربي، ولم يخطر ببال الشرطية أن كلمتها العابرة ستصبح شعاراً تطيح به الجماهير الغاضبة الحكام عن مقاعدهم، كانت تونس هي الأقل تضررا من النيران التي اشعلها البوعزيزي، فيما سارعت بعض الدول العربية لتحصين نفسها من نار الغضب الهوجاء التي أخذت تجتاح المنطقة، فيما البقية سقطت في أتونها لتأكل الخضر واليابس فيها، لتتحول إلى مستنقع كلما حاولت الخروج منه غاصت فيه أكثر.
أكثر من ستة أعوام مرت على حادثة البوعزيزي، صفق الكثير لتلك الموجة التي أخذت تقتلع أنظمة الحكم العربي الواحد تلو الآخر، قبل أن ينكفئ الجميع على جرحهم النازف، ويتحول الربيع الذي طال انتظاره إلى خريف جردنا حتى من قيمنا الانسانية وأبقانا عراة عاجزين عن أن نواري سوأتنا، سبق لوزيرة الخارجية الأمريكية "كونداليزا رايس" أن تناولت، في حديث صحفي مع جريدة واشنطن بوست عام 2005، نية الولايات المتحدة بنشر الديمقراطية في العالم العربي عبر الفوضى الخلاقة، لم تكن العدالة والحرية والمساواة سوى القناع الذي تخفي داخله بشاعة العمل المنتظر، وأوكلت المهمة لفرق نشرت القتل دون أن يحكمها أي وازع ديني أو أخلاقي، لم يلبث أن قوي عودها وتحولت إلى تنظيمات عابرة للحدود تتناحر مع الأنظمة تارة وفيما بينها تارة أخرى كي تعمق القتل والدمار في المنطقة بحيث يصعب الخروج من وحلها.
لا شك أن الشعوب العربية كانت الخاسر الأكبر وهي دون غيرها من دفع الفاتورة كاملة من دمائها ومقدراتها، وهي بحاجة إلى سنوات كي تتعافي هذا إذا قدر لها أن تستعيد عافيتها، بالمقابل كانت دولة الاحتلال هي الرابح الأكبر حيث انكفأت الدول العربية على الدمار الذي حل بها ولم تعد فلسطين تحرك فيهم شيئا، على صعيد آخر لم تستطع اوروبا أن تنأى بنفسها من الهزات الارتدادية التي رافقت زلزال الفوضى الخلاقة في العالم العربي، فأفاقت على سيل من البشر جاء اليها هرباً من اقتتال غاب عنه المنطق، وبدلا من أن تعالج مشكلة الهجرة الضيقة اليها في الصالونات كما دأبت عليه في العقود السابقة اجبرت على التعامل مع الطوفان البشري القادم اليها في مراكز الايواء، الشيء الذي مكن اليمين من تعزيز قوته وتغليب الانتماء القطري عما سواه، وبات يلوح في الافق إمكانية تفكك الاتحاد الأوروبي ولن تقتصر الانسحاب منه على بريطانيا وحدها.
الواضح أن الولايات المتحدة المالك الحصري للفوضى الخلاقة لم تتمكن من ضبط ايقاعها وفقدت معه الكثير من نفوذها في المنطقة، وأتاحت من حيث لا ترغب الفرصة للدب الروسي أن يضع قدميه من جديد في الشرق الأوسط وأن يصبح اللاعب الأكثر حضوراً في حلبة المصارعة، وإن استطاعت دول الخليج أن تحصن ذاتها وتمنع النيران من اقتحام أسوارها، إلا أنها وجدت نفسها أمام أطماع ايرانية تحولت إلى هاجس يقض مضجعها، فيما تركيا تلهث للامساك بخيوط تحفظ لها مكانتها في المتغيرات التي تعصف بالمنطقة.
إن لم يجسد العرب في السابق دور الفاعل في مستقبلهم، فعلى الأقل لم يغب عنهم الاجتهاد في المحاولة حتى وإن أخفقوا في التشبث به، لكن الواضح اليوم أنهم قبلوا بدور المفعول به، وفي خضم هذه التحولات الكبرى التي تنبئ بخارطة جديدة في المنطقة لم نعتد عليها تراجعت القضية الفلسطينية عن مركز الاهتمام والمصيبة أننا لم ندرك بعد حجم الخطورة التي تحيط بنا، وبقينا نتصارع حول مسميات وصلاحيات في الوقت الذي تتشكل فيها المنطقة بعيداً عنا، ألم يحن الوقت لأن يتنازل كل منا عن شيء من نرجسيته وأن نعيد صياغة واقعنا بالقدر الذي يمكننا من الصمود، أم أننا بتنا من قوم لا يسمعون ولا يعقلون؟.

د. أسامه الفرا