الإخـــــلاص الأنانـــــــي

بقلم: نبيل عودة

أدركت أن أجلها اقترب، وأن الأمنيات بحدوث تحول في وضعها الصحي قد تلاشى تماما. فاسْتَسلمت، أو خَضَعت بلا إرادة، وبلا شكوى، تنتظر، أو لا تنتظر، أن تغيب عن ذاتها ومحيطها، متسائلة كيف ستكون لحظة إغماض العينين للمرة الأخيرة في هذه الحياة التي لم تمهلها طويلا؟

زوجها كان يبدو لها أشد حزنا ما توقعته، مما أثار تفكيرها من مبالغة مقصودة. كان يجلس قرب سريرها، ممسكا بيدها بطريقة تذكرها بأيام عشقهما الأولى ، يوم كانت تفور بالحيوية والفرح والصبا والصبابة، مطأطئا رأسه بحزن بارز، يرتسم الحزن والألم على محياه بطريقة تجعلها غير مقتنعة، ولكنه للحقيقة لا يغادر مقعده قرب سريرها، ويواصل بإلحاح عليها أن تحاول تناول بعض الطعام الذي تحبه، ولكن نفسها لم تعد تطلب شيئا إلا انقضاء ساعات الألم الشديد حين يضعف مفعول الحقن المخدرة التي تجعلها نصف غائبة عن الوعي.

هذا الترابط بينهما، لفت انتباه الأطباء والممرضات، فرثوا لحاله بسرهم، ولكن ما باليد حيلة.

كان زوجها يلح على الأطباء بأسئلته واستفساراته عن وجود علاجات لم تطبق بعد ، وهل بالإمكان تجريبها على زوجته؟ ويضيف انه جاهز لكل المصاريف، وكان دائما يفعل ذلك حين تكون زوجته قادرة على السمع والانتباه لما يدور حولها. غير أن الأطباء يردون أن الوضع بات متأخرا، والأورام الخبيثة انتشرت وملأت جسدها، ولم يعد ما يمكن إنقاذه، إلا الطلب من الله أن لا يمد بعذابها.

كانت تقول له لا تقلق نفسك بي، أنا لم اعد اشعر برغبة إلا بإغماض عيني مرة أخيرة والانتقال للراحة الأبدية، ولكني قلقة عليك.

- لا اعرف كيف سأتصرف بدونك.. أنت حب حياتي الذي لا ينسى.

- الأيام كفيلة بعلاج الحزن، عشنا حياة سعيدة، وهذا ما سأحمله معي إلى القبر.

- خسارتي ستكون كبيرة ،لا بد أن تحدث عجيبة طبية..

- لا تدخل نفسك بأوهام .. قابل الحقيقة بدون أوهام. برجولة..  وهل للرجولة قيمة بدون جرأة            ورباطة جاش وضبط النفس ؟ 

- وأين هي الرجولة أمام مأساة الفراق؟

- يا زوجي الطيب، كان أفلاطون يقرن الرجولة بفئة المحاربين، الفرسان، ويقرن الفضيلة بفئة الحكماء والفلاسفة، وأنت تعشق أفلاطون وتكثر من قراءة الفلسفة، فأتوقع منك أن تكون رجلا وحكيما في مواجهة ما سيأتي. لأني احبك ولا أريد أن تدمر حياتك بالحزن.

- لا اعرف ما سأفعل بدونك .. ولا يبدو أن الفلسفة تملك الإجابات التي تريحني .

- هل حقا كنت تحبني كل فترة زواجنا بنفس القدر والقوة التي ابتدأنا بها؟

- كما لم أحب امرأة من قبلك.

- ومن بعدي؟

- لا اعرف إذا كنت قادرا على حب امرأة غيرك.

- ولكن الإنسان أناني يا عزيزي بطبيعته، أليس كذلك؟

- هذا في الفلسفة، في الواقع كل شيء مختلف.

- كنت دائما تشرح لي نظريات ديمقريطس وابيقور، بقولهم أن الأنانية هي مذهب فلسفي عن طبيعة الإنسان، وأن الإنسان أناني بطبيعته، وعليه فهو يتوخى مصالحه، ولكنك كنت تقول بما أننا زوجان متحابان ، فنحن نطبق أنانيتنا المشتركة. كيف سميتها؟

- أنانية معقولة..

- هذا ما كان يقوله هيلفيتيوس.. بأن الإنسان يخضع أنانيته لخدمة المجتمع، وأنت تخضع أنانيتك لخدمة بيتنا السعيد؟؟ هل نسيت؟

- ليت الزمن يعود بنا إلى الوراء

- لا تتمنى المستحيل. الألم يشتد

- سأستدعي الممرضة.

- لا تفعل. أريد أن أتحدث معك، كما كنا قبل مرضي.

- أريدك أن تعودي للبيت تملئيه فرحا وسعادة.

- ألا تظن أن حلمك هذا ينبع من الطابع الأناني للإنسان؟

- تتفلسفين وأنت في قمة ألمك؟

- هل ما زلت تحبني بنفس القدر.

- ولن يتغير حبي.

- كفى.. اكتفي بحبك حتى ساعة رحيلي.

- فقدانك سيجعلني أحبك أكثر، وهذا لا يتناقض مع فلسفة أفلاطون وأصحابه.

- ستحبني أكثر لأني سأغادر عالمك وأمنحك الراحة من الارتباط مع امرأة مريضة تغيب عن الوعي أكثر مما تصحو.

- كيف تفكرين بهذا الشكل؟ إني أتألم لألمك ، وامسك دموعي بالقوة؟

- آسفة لم اقصد إيذاءك.

مسحت بيدها على جبينه محاولة الابتسام رغم الألم الشديد الذي يأكل جسدها.وسألته:

- صارحني.. ربما أموت اليوم أو بعد أسبوع على أكثر احتمال.. هل أحببت امرأة غيري..؟

- إطلاقا، كيف افعل ذلك وأنت تملئين علي حياتي؟

- وبعد وفاتي ، هل ستحب امرأة أخرى؟

- لا أظن.. ليس من السهل الإجابة على سؤال لم يراود تفكيري إطلاقا.

- ما زلت شابا، مثقفا، متنور العقل، ترغب بك كل امرأة بالغة العقل..هل ستعلن رهبنتك؟

- لا أعرف.. لا استطيع التفكير بامرأة غيرك.

- ما زلت تنفي أفلاطون وفلسفته.

- لو واجه أفلاطون ما أواجهه كان غير من فلسفته.

- لا ليس صحيحا. كل الرجال الصغار في السن يتزوجون بعد وفاة زوجاتهم مرة أخرى .. هل ستكون الشواذ على القاعدة؟

- أنا لا أفكر بهذا الشكل، أنت تتعبين نفسك، سأظل على حبك لوقت طويل.

- وبعد الوقت الطويل .. صارحني؟

- حسنا.. ربما ، ولكن ليس من السهل إيجاد امرأة مثلك. لا أعرف، ربما سأظل ابحث حتى يصيبني اليأس؟

- دعك من مراضاتي.اتفقنا ان الأنانية هي صفة انسانية، والفلسفة منذ افلاطون تنبهت لهذا الظاهرة،  أريد أن أطمئن عليك بعد وفاتي والموضوع لا يحزنني. أنانيتي سأدفنها معي.. هل تهرب من الجواب؟

- حسنا، ربما يحدث أن أجد امرأة مثلك وأحبها ونتزوج، على أن تعرف انك سيدة البيت حتى بعد وفاتك.

- وهل ستسكنان في نفس منزلنا؟

- لا أعرف، حاليا لا منزل لي غيره. إذا كان يضايقك الأمر لن افعل..

- لا يضايقني. أنت حر بعد وفاتي، ولكني أحب أن أعلم ما يطمئنني عليك.

- هذا إذا تزوجت..

- حسنا ، هذا اتفقنا عليه.. ستتزوج. ولكن قل لي هل ستستعملان غرفة نومنا، وتنام معها بنفس سريرنا؟

- يبدو ذلك إذا لم أغير المنزل، ولا تنسي انه منزلك وأنت سيدته دائما، ما دمت أنا حيا.

- أريد لك طول العمر، ولكن قل لي هل ستمارس مع زوجتك الجديدة الحب على سريرنا؟

- إذا تزوجت و..

- اتفقنا على انك ستتزوج. صارحني . ستمارسان الحب في غرفة نومنا وبسريرنا؟

- لنقل أن ذلك متوقع.

- الم تفكر بامرأة غيري خلال فترة ارتباطنا؟

- لا.

- ولم تغريك أي امرأة جميلة بأن تمارس معها الحب ؟

- حبك أغلق علي التفكير بنساء غيرك.

- تصر على مناقضة أفلاطون وأصحابه.. الم تقمع أي رغبة بمغامرة عابره مثلا؟

- أنا ؟ إطلاقا. حبك كان يكفيني.

- إذن ستكون لك بعدي امرأة أخرى تسكنها منزلي، وتضاجعها على سريري، أنا لست غاضبة. أنت تستحق ذلك.

- لماذا تشغلي فكرك بما لا يشغلني إطلاقا؟

- إنها ساعاتي الأخيرة، أريد أن أموت وأنا على يقين أن الرجل الذي أحببته سيعيش سعيدا من بعدي.

- سأكون حزينا لفراقك .. وربما لن أجد امرأة أحبها كما تتخيلين لأني لن أقبل امرأة أقل شأنا منك.

- حسنا ..ستتزوج، تسكن وإياها منزلنا، تستعملان غرفة نومنا، تمارسان الحب على سريرنا، ولكن قل لي، هل ستعطيها ملابسي أيضا؟

- إطلاقا لا.. إنها أنحف منك وأطول قامة وألوان ملابسك لا تناسبها ، و ..

- أطلب الممرضات على عجل، الألم لم يعد محمولا...

 

********

اود توضيح "انانيتي" في صياغتي لهذا النص

الفلسفة تفسر الواقع، وقد اهتمت الفلسفة الإغريقية بكل ما يتعلق بطبائع الإنسان، وما أوردته في القصة هو لتزويد القارئ بمعرفة أولية، بأن الفكر الإنساني منذ الإغريق، كان متنبها للكثير من العوامل التي تبدو وكأنها بنت يومنا. وقد جاءتني فكرة القصة وأنا أقرأ عن مفهوم الأنانية الفلسفي، وكيف فسره أفلاطون وصحبه، فبدأت الخيوط  للفكرة القصصية تتشكل حول قضية تعتبر في المجتمعات العربية والغربية ظاهرة سائدة، تقريبا بنفس العقلية ونفس الميول الأنانية.

لا اعني بالأنانية سلبيات أخلاقية إطلاقا. هي ظاهرة أخلاقية لها جوانبها الايجابية الكبيرة، وتخلق دوافع للتقدم والرقي . ولها جوانب سلبية، يبدو ان التعبير يوحي بها تلقائيا.. لو عدنا للتعبير اللاتيني نجد أن الأصل جاء منego  والتي تعني "أنا" والمصطلح تحول إلى egoism , وتفسره الفلسفة الحديثة بأنه مبدأ في الحياة (انظر تعبير "مبدأ") وخصلة خلقية يدلان على سلوك الإنسان من زاوية موقفه من المجتمع والناس الآخرين، وان الإنسان يعلي في علاقاته مصلحته الخاصة على مصالح الآخرين، وهذا أمر طبيعي بحدود أخلاقية معينة. وتشكل الأنانية إحدى أكثر تجليات الفردية صراحة وعلنية.

من الخطأ تقييمها سلبا فقط،لأننا بدون الأنانية نفتقد للكثير من الدوافع الايجابية التي تعود بالخير والفائدة العامة على المجتمع والناس  نتيجة  "نشاطنا الأناني". والنموذج الأقرب كتابة نصوص قصصية تشد القارئ وتثير اهتمامه ونشاطه الذهني.. الكاتب لولا أنانيته لما امسك القلم.. الكتابة هي تعبير عن تجليات الأنانية، التي يطمح إليها كل من حمل القلم وأبدع نصا ما.. فهل نقول عنها لا أخلاقية؟

إذن الأنانية تخضع للنسبية أيضا.. أي أن الحكم عليها غير مطلق.. إنما قياسا لعدم تجاوزها حدود حق الآخرين بان لا يخضعوا لأنانية فرد ما لدرجة إلغاء أنانيهم .. والنظريات الجديدة واسعة للغاية، وبعضها يربط ألأنانية بنوع النظام أيضا، وليس بالفرد فقط...وما جعلني أضيف أفلاطون وصحبه للقصة، ينبع من قناعتي ان القصة ليست نصا للمتعة فقط، إنما مادة فكرية للتوعية أيضا، التوعية للواقع الاجتماعي والتوعية الذهنية بما أبدعه الفكر الإنساني، وواضح أن الفلسفة تشكل قمة الإبداع الذهني للبشرية.

بقلم/ نبيــل عــوده