المثقفين صنفان ، صنف استثمر نفسه لصالح إشباع مصالحهم الذاتية ، وهو لأجل تحقيق ذلك لا مانع لديه أن يبيع نفسه للشيطان ، وأن يتحدث من خارج قناعاته حتى ولو أدى كلامه إلى إلحاق الضرر بالقضايا الحيوية والإستراتيجية ، مسوغاً للشيطان تصرفاته وجرائمه . وصنف آخر وقف على النقيض من هؤلاء تماماً ، وهو يُدرك أنه متهم منهم وأذاهم ليس بعيداً عنه ، ورُغمّ ذلك لا يقيمون وزناً أو أهمية في سبيل قناعات بُنيت على الإيمان والقناعات التي لا تسمو فوقها أية اعتبارات أو مصالح . ونموذج هؤلاء الكبار وإن لم يكن آخرهم ممن نُجل ونحترم موافقهم وتضحياتهم ، ذاك المثقف ورجل العلم والموسوعة الوطنية ، الذي كتب وصيته مع الفجر ، الشهيد باسل الأعرج ، الذي كان عقل من عقول الانتفاضة الفلسطينية الثالثة وإبداعاتها في ميدان المواجهة والمقاومة .
مسيرة المثقف الموسوعة والمقاوم الشهيد باسل الأعرج ترجمة لسيرته ، هو وإن كان شخصاً بسيطاً وديعاً ومتواضع ، إلاّ أنه كان يختزن في عقله قبل قلبه ، حبه وتعلقه الشغوف بوطنه وشعبه ، وقناعاته الراسخة أنّ خلاصهما لا يكون إلاّ بالانتفاضة والمقاومة . لذلك رسم ورفاقه الشكل الذي ستكون عليه هذه الانتفاضة ( انتفاضة القدس ) ، التي يجب أن تكون جديدة في أساليب مواجهتها لقوات الاحتلال وقطعان المستوطنين الصهاينة ، حيث الطعن والدهس من تلك الأدوات . وبالتالي جعل ساحة تحرك الانتفاضة في منطقة ما يعتبرها الكيان عصبه الإستراتيجي في مدينة القدس والأراضي المغتصبة في العام 1948 ، وعلى بقية أراضي الضفة الغربية المحتلة .
كان يُدرك باسل أن طريقه وسائر المقاومين محفوفة بالمخاطر ، وهو وإن كانت أجهزة أمن العدو تغفله ، لكن الأجهزة الأمنية في السلطة الفلسطينية ، للأسف الشديد كانت تضعه ورفاقه الخمسة تحت مجهر رقابتها ، التي سرعان ما اعتقلتهم وأودعتهم سجونها ، ليُطلق سراحهم بعد خمسة أشهر ، فتبادر الأجهزة الأمنية " الإسرائيلية " وعلى عادة من يعتقل لدى أجهزة السلطة الفلسطينية ، أن يجد نفسه في قبضة الصهاينة . ولكن الشهيد الأعرج تمكن من الإفلات ، فيما ألقي القبض على رفاقه الخمسة . ومن لحظتها بقي الشهيد باسل الشغل الشاغل ، فهو المطادر رقم واحد من قبل أجهزة الأمن " الإسرائيلية " ، وهنا لا أحد يجزم أو ينفي أنّ أجهزة أمن السلطة كانت هي الأخرى منشغلة في متابعة شهيدنا باسل ، أم أنها اكتفت في الوقوف على الحياد ؟؟ !! .
وأخيراً وبعد طول بحث وتحرٍ وتنكيل واستدعاءات شبه يومية لعائلة وأصدقاء باسل الأعرج ، تمكنت الأجهزة الأمنية في الكيان " الإسرائيلي " ، من تحديد مكان تخفيه ، فاقتحمته بنيران أسلحتها من دون سابق إنذار لباسل ، الذي كان سيرفض حتى دعوة تسليم نفسه ، فقاتل ببسالة ، كاتباّ وصيته على عجلٍ ، مؤكداً على ثبات فكرة المقاومة كخيار في العقل الفلسطيني ، وعدم التنازل عنها . كيف لا وهو الذي أمدّ الفكرة الخيار من علمه وثقافته ، ووهبها الجهد والعرق ، ومن ثم أغلى ما لديه دمائه الزكية .
رامز مصطفى