عن الثقل الفعلي… ومركز الثقل

بقلم: عماد شقور

توالي عقد مؤتمرات فلسطينية في تركيا وايران ومصر، يحمل اشارات سلبية واشارات ايجابية، كما يحمل انذارا لا يجوز التقليل من خطورته.
هذه الاشارات تعيد إلى الذاكرة، ما كان عليه حال الفلسطينيين في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي. في تلك المرحلة تمرد آلاف من الفلسطينيين ضد واقع تلك الايام، وبدأت تتشكل طلائع لتنظيمات وحركات واحزاب سياسية فلسطينية جديدة، في داخل مناطق الـ48، (اهمها "حركة الارض"، و"الجبهة الشعبية")، وفي قطاع غزة والضفة الغربية، واكثر من ذلك في مخيمات اللاجئين في دول الطوق والخليج العربي.
من كل هذا التململ والضيق الفلسطيني، انبثقت النوى الاولى لـ"حركة فتح" التي آمنت بضرورة ان يأخذ الفلسطينيون المبادرة لمنازلة الاحتلال باعتماد الكفاح المسلح وحرب العصابات، ولـ "حركة القوميين العرب" الناصرية، المدعومة من الاجهزة المصرية، ولعشرات من التنظيمات الاخرى. وعندما استشعر النظام العربي بقيادة مصر، ان هذا التململ الفلسطيني سيقود حتما إلى خروج الوضع عن السيطرة، بالاضافة إلى اسباب عديدة اخرى، بادر هذا النظام، من خلال اول مؤتمر قمة عربي رسمي في الاسكندرية، إلى انشاء "منظمة التحرير الفلسطينية" وعززها بانشاء "جيش التحرير الفلسطيني"، و"الصندوق الوطني الفلسطيني"، و"مركز الابحاث الفلسطيني"، على امل ان يتم ضبط التحركات الشعبية الفلسطينية، الشبابية اساسا، في هذا الاطار الجديد، ليسهل عملية المراقبة والسيطرة وتحديد اتجاه تلك التحركات.
شباب تلك الايام، من الجيل الاول والجيل الثاني للنكبة، تناكفوا كثيرا، منقسمين إلى معسكرين: معسكر رأى ان الوحدة العربية هي الطريق لتحرير فلسطين، في حين رأى المعسكر الثاني ان تحرير فلسطين هو الطريق للوحدة العربية. إلا ان الوحدة لم تتحقق، بل ازداد وزن الدول القُطرية، وتناقص وزن الوحدة العربية، وتمكنت سياسات القوى العظمى، في تلك المرحلة، من خلق اختلافات مصطنعة بين شعوب ودول الامة العربية الواحدة، إلى درجة تحويل خريطة العالم العربي إلى ما يشبه رقعة الشطرنج والدومينو، لكل قطعة بيضاء جارة سوداء. وجاءت حرب حزيران 1967 الكارثية التي كشفت هشاشة النظام العربي باكمله، فأُعيد ترتيب الاولويات، وخاصة في دول الطوق، استعدادا للمعركة التالية في تشرين الاول/اكتوبر 1973.
في ظل هذه التطورات الكبيرة، وبفضل صمود مقاتلي حركة فتح بالاساس في معركة الكرامة في اذار/مارس 1968، بدأ العمل الوطني الفلسطيني في التحرر تدريجيا من قبضة النظام العربي، وبدأت الاستقلالية الفلسطينية بشق طريقها رسميا وعلنيا، وكانت الخطوة الرمزية الاولى على هذا الطريق، تنحى احمد الشقيري عن رئاسة م.ت.ف. لصالح يحيى حمودة، الذي سلمها بدوره بعد اشهر قليلة لحركة فتح.
عند هذه النقطة تحديدا، تم ترسيخ مركز الثقل الفلسطيني خارج ارض فلسطين. وتمكنت حركة فتح بقيادة الزعيم التاريخي ابو عمار وحنكته، من الحفاظ على مدى عقود على تماسك الثقل الفلسطيني حول مركزه، باعتماد التشكيل الجبهوي لقيادة العمل الوطني الفلسطيني، الذي لم يستثنِ أي طرف فلسطيني فاعل، من منظمات وفصائل فلسطينية ومستقلين، محتفظا لنفسه بالاولية، دون استبعاد للآخرين.
ظل هذا الحال قائما حتى مطلع التسعينات، وانطلاق مؤتمر مدريد، وصولا إلى اتفاق اوسلو، وبدء عودة قيادة العمل الوطني الفلسطيني ونحو اربعمئة الف فلسطيني من المناضلين وعائلاتهم إلى ارض فلسطين. وهنا انتقل مركز الثقل الفلسطيني إلى داخل الوطن، وبدأ الخلل في تعامل "مركز الثقل" مع الثقل نفسه، حيث اخذت "السلطة الوطنية الفلسطينية" الوليدة تنافس منظمة التحرير على مركز القيادة ورسم السياسة والقرار، واخذ "المجلس التشريعي" الفتي ينافس المجلس الوطني العجوز، واخذ "مجلس الوزراء" ينافس اللجنة التنفيذية، واستولت "وزارة المالية" على ما كان يصل من دعم مالي للصندوق القومي، وبدأت "وزارة الخارجية" بتعيين السفراء، ومخاطبة الدول، وتمثيل الفلسطينيين في العالم، ملغية دور الدائرة السياسية التي أُلغي وجودها ذاته لاحقا.
لكن شخصية ابو عمار، وكارزميته، وحنكته السياسية، وتاريخه، واعتياد الفلسطينيين عليه وعلى قيادته، غطت على بدء ظهور هذه الشروخ في العلاقة البديهية بين مركز الثقل والثقل ذاته. وما ان بدأ عهد الرئيس ابو مازن حتى ظهر هذا الخلل الخطير. إلا ان ابو مازن لم يقصِّر فقط في معالجة الخلل، بل زاد عليه وراكم اضعافا مضاعفة من خلطة الخلل ذاتها، واوصل، بسياسته وقراراته، إلى داخل اللجنة التنفيذية التي يرأسها، واكثر من ذلك: إلى داخل حركته "فتح" التي يرأسها ايضا، والتي اوصلته إلى كرسي الرئاسة، والى عهد يسمّى باسمه.
يستند الاخ ابو مازن في قراراته، وفي اسلوب ادارته للعمل الوطني الفلسطيني، إلى كم هائل من العمل السياسي الصحيح، والى انجازات سياسة مهولة، على الصعيد الدولي كما على الصعيد الاسرائيلي. إلا ان كل هذا العمل والجهد العظيم، لا يلغي، بالمطلق، اهمية التواصل مع الناس، كل الناس، ككتل وتجمعات، بل وكأفراد ايضا، والوصول معهم إلى تفاهمات واتفاقات وتحالفات، تجمع شتات الفلسطينيين المشتتين بفعل النكبة والاستعمار الاسرائيلي، وبفعل الانظمة العربية والاقليمية المتحاربة، وبفعل القوى الدولية التي لا تتصرف إلا على اساس مصالحها هي، في الحاضر دائما، وفي المستقبل ايضا، بالنسبة إلى القيادات التاريخية الخالدة، ذات النظرة الحكيمة والشجاعة.
هكذا اقرأ، انا شخصيا، هذه اللقاءات والمؤتمرات الفلسطينية. هي مباركة، لأنها تؤكد حيوية ابناء الشعب الفلسطيني. ولكنها خطيرة، لانها تشير إلى احتمالات تصدع في جدران البيت الفلسطيني الواحد.
وهي رسالة تحذير للقيادة الفلسطينية الحالية، ورئيسها الاخ ابو مازن، باحتمال تطور الشروخ الفلسطينية إلى انقسام، وتطور الانقسام إلى صراع، وتطور الصراع إلى هزيمة كاملة لكل اطراف الصراع الفلسطيني ـ الفلسطيني دون استثناء.
ردد العرب قديما مع شاعرهم ربيعة الدارمي قوله/حكمته/نصيحته: أخاكَ أخاكَ، مَن لا أخاً له… كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاحِ, وإنَّ ابن عَمِّ المرءِ، فاعلم، جناحُه… وهل ينهض البازي بغيرِجناحِ.
لا يكفي لأي انسان كان، سواء كان مسؤولا او انسانا عاديا من بسطاء الناس، ان يكون حريصا ومُصرّاً على الحق والصحيح. فالحكمة اساسٌ مركزي، لا مصلحة ولا فائدة في تجاوزها. إذا كان الضوء الاخضر يشير إلى حقك في المرور بمركبتك، فما هي مصلحتك في تنفيذ حقك إذا كانت مركبة اخرى تقطع طريقك الاخضر، ولأي سبب كان، سواء كان ذلك السائق مسرعا لايصال أُمِّه إلى غرفة الطوارئ في المستشفى، او مسرعا لأنه مستهتر او ثمل؟. فالمقبرة للمجني عليه مقبرة وغياب وانعدام، والسجن للجاني مقبرة للاحياء وغياب وانعدام. كن مع الحق ومع كل ما هو مشروع، لكن لا تنسَ ان الحكمة اكثر اهمية.
أسَّسَ "المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج" قاعدة انطلاق لآفاق رحبة، ليست سلبية بكل ابعادها، وليست ايجابية بكل منطلقاتها. يجب التعامل معها باحترام وبجدية مطلقة، بل ويجب التعامل معها بود وبمحبة ابوية وعائلية، وبهدف الاستيعاب في اطار البيت الفلسطيني الواحد: اطار منظمة التحرير الفلسطينية.
أسَّسَت مؤتمرات العين السخنة في مصر، قاعدة انطلاق لآفاق رحبة، ليست سلبية بكل ابعادها، وليست ايجابية بكل منطلقاتها. يجب التعامل معها باحترام وبثقة مبدئية وبجدية مطلقة، بل ويجب التعامل معها بود وبمحبة ابوية وعائلية، وبهدف الاستيعاب في اطار البيت التنظيمي الفلسطيني: اطار حركة فتح.
التعامل مع العدو والمحتل والمستعمر بحكمة وباعصاب متماسكة باردة ضروري. التعامل مع القوى الدولية المعادية، والمحايدة، والحليفة، بحكمة وباعصاب متماسكة باردة ضروري. لكن لا هذا ولا ذاك يلغيان ضرورة التعامل بحكمة وبحب وبقبول الشراكة، مع الاخ الفلسطيني وابن العم العربي. واكثر من ذلك: بدون قاعدة شعبية فلسطينية عربية متماسكة ومتكاملة وثابتة لا يمكن احراز أي تقدم حقيقي على الجبهة الدولية، واي انتصار حقيقي على جبهة الصراع مع العدو المحتل والمستعمر.

عماد شقور

٭ كاتب فلسطيني