كل الذين يتحدثون عن تسوية على المسار الفلسطيني - الإسرائيلي، يستخدمون عبارة التنازلات المؤلمة التي يتعين على كل طرف تقديمها.
فما هذه التنازلات تحديداً؟
على مدى ربع قرن من الزمان، هي عمر الاعتراف المتبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير، صار الطرفان مكشوفين أمام بعضهما بعضاً. الإسرائيليون يعرفون جيداً ماذا يريدون من الفلسطينيين، والفلسطينيون يعرفون كذلك ماذا يريدون من الإسرائيليين.
أبدأ بالفلسطينيين... فهم يريدون دولة مستقلة لا حياة لهم من دونها، ولا تعايش مع أي صيغة بديلة تحت أي عنوان كان، ولكي تكون دولة قابلة للحياة، فلا بد أن تكون القدس الشرقية عاصمة لها، وأن تكون الأراضي الفلسطينية جميعاً مترابطة بصورة طبيعية، وليس كما كان يقترح الإسرائيليون بالأنفاق والجسور.
ولأن قضية فلسطين بالأساس هي قضية لاجئين، كانوا في الأربعينات يعدون بالآلاف، وصاروا في هذا الزمن يعدون بالملايين، بعد أن دخلت عليهم مصطلحات كثيرة في تصنيفهم، لاجئون ونازحون ومشردون... الخ.
دون حلٍ مقنع لهؤلاء الناس، فلا أمل ليس ببلوغ حل فقط، وإنما باستقرار أي حل لا يتضمن هذه المسألة.. وما يطلبه الفلسطينيون وما يعتبرونه شرط حياة ليس قابلاً لتنازل؛ لأن أي تنازل عن هذا المطلب لن يكون مؤلماً، بل قاتلاً.
هذا ما يريده الفلسطينيون، وما التزم العرب به على مدى عقود، ولم ينكر دولياً حتى من قبل الحلفاء الاستراتيجيين لإسرائيل، وكل ما فعله الفلسطينيون منذ دخولهم المعترك السياسي في زمن منظمة التحرير كان يهدف إلى هذه الغاية، حتى التنازلات التي توصف بالمؤلمة؛ فقد قدمها الفلسطينيون سلفاً حين ذهبوا إلى صيغة غير عادلة في الاعتراف المتبادل، وأمّلوا بأن غير العادل هذا قد يحقق عدلاً نسبياً في نهاية المطاف.
أمّا الإسرائيليون... الذين يغريهم تفوقهم العسكري والاقتصادي والتحالفي على الفلسطينيين، فإن التنازلات المؤلمة موضوعياً لا بد أن تكون جميعاً من جانبهم، فمؤلم لهم ولليمين المسيطر بالذات التنازل عن القدس الشرقية للفلسطينيين، ومؤلم لهم بعد تعبئة طويلة الأمد أن يتراجعوا عن طلب الاعتراف بيهودية الدولة، المرفوض جملة وتفصيلاً من الفلسطينيين، ويؤلمهم كذلك الانسحاب من مناطق كالأغوار مثلاً ليس لحسابات أمنية، وإنما لحسابات اقتصادية؛ لما تدره هذه المنطقة من دخل منتظم للدولة العبرية.
والتنازل الأكثر إيلاماً أن توافق إسرائيل على عودة جزئية لبعض اللاجئين الفلسطينيين، حتى صيغة "لمّ الشمل" التي كانت تسمح بعودة عدد محدود للغاية عطلت تماماً على مدى سنين.
هذا هو الواقع على الأرض، وهذه هي مكونات ملف التسوية الفلسطيني - الإسرائيلي، لم آتِ على ذكر المستوطنات؛ لأنها ينبغي أن تكون مشمولة بالانسحابات المطلوبة.
الذين اشتغلوا في التسوية وهم خبراء مهمون من الجانب الأميركي، كانوا يحاولون دائماً إدخال جمل ضخم من ثقب إبرة، لم يكن رهانهم على اجتراح معجزة أو ابتكار أفكار تغلق الملف على كل ما فيه من أمور شائكة أو مستحيلة، بل كانوا يراهنون على حتمية تنازل فلسطيني تحت ضغط التفوق الإسرائيلي والضعف الفلسطيني والتشتت العربي، وكلما كانوا يقتربون من صيغة كان يظهر لهم أن تلفيق التسويات إنْ عمّر أياماً أو شهوراً، فلن يتكرس ما دام جزء من الفلسطينيين يرفضونه ويستعدون للمجازفة بمقاومته بشتى الوسائل.
الحديث يدور الآن عن مبادرة أميركية يجري إعدادها في أروقة إدارة ترمب الجديدة وغير المستقرة، عنوانها "حتمية التنازلات المؤلمة" ومن ضمن مرجعياتها المبادرة العربية للسلام، وعلى الأغلب أن تعتمد على صيغة إقليمية ليس مجرد داعمة بصورة عامة، بل شريك في التسوية وضماناتها، وبوسعنا اعتبار ذلك على الرغم من عدم اليقين بالنجاح، بمثابة فرصة جديدة تمتلك، لو وضعت بدراية وعناية، إمكانية الإقلاع ولو كتجربة فاعلة، فنتنياهو الذي انتظر ترمب بفارغ الصبر لن يكون سهلاً عليه رفض مبادرة تصدر عنه، والفلسطينيون الذين يعتمدون كثيراً على عمقهم وغطائهم العربي، سيكون صعباً عليهم رفض صيغة يعرفون أن العرب مهتمون بها، وحين تتقدم أميركا بصيغة حتى لو كانت مجحفة، فستؤيدها الرباعية الدولية، وقد تكون هي الأداة لتنفيذها.
يوصف تحليلي هذا بالمتفائل، في زمن تبدو فيه كل المعطيات القائمة على الأرض مناقضة لأي تفاؤل مهما كان رغائبياً أو منطقياً، ودفاعي عن تحليلي هذا يتلخص في جمل قصيرة... هذا هو الشرق الأوسط، وهذا هو الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وامتداداته الإقليمية والدولية؛ فكل شيء يجري على مضماره ومن أجله يبدو ممكناً من حيث البدايات وغامضاً من حيث المآلات.
ولا يضر لو قلنا لِمَ لا نجرب؟
نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني