عرفت الشهيد باسل الاعرج من مواقع التواصل الاجتماعي، تحدثت وإياه اكثر من مرة، كان يتابع كتاباتي على الفيس بوك وعلى وجه التحديد ما اكتبه عن قريتي كفرمالك، اكتب عن هذه القرية عن بيوتها القديمة، عاداتها وتقاليد سكانها، اهتم باسل بكتاباتي عن قريتي عن ناسها، اهتم بالطابون وشوارعها الضيقة وبيوت العائلات والاحواش والبيادر والزقائق، وبالتحديد عندما كنت اضع على صفحتي صورا عن عين سامية المشهورة بمياهها العذبة وتاريخها، ولفت انتباهه صورا لبقايا بيت القاضي، بالنسبة لي هذا الاهتمام كان عاديا بإعتبار ان ابن اليلد قد لا يعطي ذاك الاهتمام للحارات والشوارع والطابون والاحواش وحتى لبيت القاضي فقط هو تاريخ، مجرد تاريخ، باعتبار لا معلومات لدينا، ماذا يعني بيت القاضي، الا المغتربين الذين يحنون لكل ذرة تراب ولذكريات تركوها، ولكن لماذ باسل كان لديه ذلك الاهتمام ببيت القاضي وإبنه عمر؟
قال لي باسل، هل تعلم ان اول جهاز مخابرات فلسطيني اسسه شخص من كفرمالك؟ تبسمت دون يرى بسمتي، اعتقدت انه يتحدث عن وقتنا الحالي ما بعد انطلاقة الثورة او بعد وصول السلطة، ولكن الحقيقة غير ذلك، وانما كانت منذ احتلال الصليبيين لفلسطين، هذا هو التاريخ الذي قاله باسل، وقال سارسل لك البحث حول هذا الموضوع، حيث هناك اخطاءا املائية وقواعدية لانه لم ينقح بعد، وبالفعل ارسله وكان لحظة من تاريخ لقريتي ووضعته مرتين على صفحتي بموقع التواصل الاجتماعي الفيس بوك ليطلع عليه من اراد.
القاضي رفض جمع الضرائب من الفلسطينيين، فاخذا الصليبيون منه ابنه عمر الى ان يجمعها، ونفوه الى بيت فوريك قضاء نابلس، فوصية القاضي لإبنه عمر كانت: "أودعتك الله، فلا تنسى دينك واهلك"، فاخذوا عمر ليكون خادما عند الصليبيين، ليتعلم سبعة لغات وهي مجموع اللغات التي كان يتكلمها الصليبيون بتلك الفترة.
ما يطرحه باسل بدراسته هذه، ليس فقط التاريخ وانما الاشتباك مع العدو، واستفادة القيادة من قدرات ابناء الشعب المخلصين والوطنيين، فالقاضي رفض التعاون مع الاحتلال الصليبي، وصلاح الدين الايوبي عندما علم بقدرات وذكاء عمر استفاد منها ليوكله بالتجسس على الصليبيين ويدعوه لتشكيل جهاز تجسس، وهو شبيه باجهزة المخابرات اليوم.
عندما كنت وباسل نتحدث من خلال مواقع التواصل او وسائل اتصال اخرى، كان يدور الحديث عن الوعي وفهم افضل للعدو، كان يذكر بان الاحتلال الى زوال اذا اجدنا فهمه افضل واجدنا ادارة المعركة معه، فالعدو لا يفهم الا لغة النار، والاحتلال لا يزول إن لم تكن هناك مقاومة، فكيف الحال بالنسبة للشعب الفلسطيني الذي ينكر على شعبنا حقه بالوجود؟
باسل لم يكن حالة نادرة، وانما هو تعبيرا عن حالة جديدة عند جيلا جديدا يعمل على مواصلة المسيرة، مسيرة التجديد حيث جيلا يسلم جيلا اخرا، باسل كان من بحوثته يحاول استكشاف طرق الاشتباك مع العدو واستنتاج الدروس، لا يفصل المراحل ولا يلغي دور الاجيال، لكل مرحلة ظروفها وفهمها بإدارة الصراع
اشتبك باسل مع العدو فكريا ووعيا قبل ان يشتبك معهم عسكريا، فباسل حالة نوعية جديدة بطريقة فكره، حيث ارعب العدو، استمرار هذه الحالة التي يمثلها باسل، ستخلق واقع جديد، فاعتقد العدو ان التخلص من باسل، قادرا على نسف هذه الفكرة الجديدة التي تمهد لواقع جديد، فلم يكن الكيان مقدرا أن فكر باسل وتوقعاته هي راسخة وبقوة بالمجتمع الفلسطيني وعلى وجه التحديد عند جيل باسل الذي يعيش الواقع بكل تفاصيله، حيث ما افرزه اغتياله ان اعطى شعبنا اهتماما فائقا لاهمية
فكره وطريقة الاشتباك، فباسل توقع الانتفاضة الحالية منذ زمن، اتذكره عندما قال لي، لن يستمر الوضع على ما هو، ستكون هناك انتفاضة جديدة بأدوات جديدة، لم يكن هو قائدها، ولكن كان هو منظرها من خلال قدرته على فهم الظروف التي ستخلقها، وإكتشاف الاشياء قبل حدوثها، وها هي الانتفاضة مستمرة والاشتباك مستمر مع الكيان بكل بقعة بفلسطين وخارجها.
شعبنا تصدى للغزوة الصهيونية منذ بداية الهجرة الصهيونية لفلسطين، ورغم شدتها وتنظيمها ودعم الغرب لخلق الكيان الصهيوني، إلا ان شعبنا بإمكانياته البسيطة تصدى باستمرار للمشروع الصهيوني بفلسطين، ولم يتراجع اطلاقا رغم فشل كل ثوراته، ولكن كل تراكمات هذه العملية النضالية، وجيلا يسلم جيل، لم يحصل أن فشل شعبنا او هزم، فالثورات قد تطول، والثورة الفلسطينية ايضا ستطول، باعتبار ان المشروع الصهيوني قائم على اقتلاع شعبا من ارضه، فالزير وجمجوم وحجازي الذين قدموا ارواحهم على حبل المشانق وصولا الى الاعرج الذي استشهد وهو يطلق الرصاص على العدو بوسط رام الله، هي مراحل النضال المستمرة والاجيال المتعاقبة.
باسل هو بداية لمرحلة جديدة، نظر لها وابتدأت، وها هو الجيل الجديد يواصل المرحلة النضالية الجديدة التي هي امتدادا لمراحل سابقة، فشعبنا لم ولن يهزم، لكل مرحلة ظروفها ورجالها وقادتها ومنظريها، فالعدو يلاحق المنظرين لأساليب النضال والمواجهة والمثقفين والقادة اصحاب المباديء الثورية التي لا تساوم، الاشتباك مع العدو، وتوسيع ساحة النضال والمواجهة واستنزافه تتطلب القبض على الجمر، وارادة وصمود وتحدي، تتطلب جيلا واعيا ومثقفا تفرضه المرحلة، باعتبار عدونا يحاول تشويش طبيعة الصراع، وباعتبار ان الظلم باقي ومستمر، فباسل رغم استشهاده وهو يطلق النار على العدو، إلا ان ترك اثرا ومبدئا يقول ان العلاقة مع هذا العدو هو الاشتباك فقط.
بقلم/ جادالله صفا