انتظرهم باسل الأعرج في شقة صغيرة في مخيم قدورة، بين البيرة ورام الله. وبعدما قتلوه، وجرّوا جثته على الأرض واختطفوها، لم يعثروا في شقته سوى على مجموعة من الكتب والمجلات وكوفية وبندقيتين. وكان دم الشهيد يبقّع الأرض ويصبغ الكلمات بالمعاني.
كان باسل يقرأ غرامشي كي يقارن بين ملامح المثقف العضوي الذي صاغه هـــذا الثائر والفيلسوف الإيطالي، وبين ملامح "المثقف الفلسطيني المشتبك" الذي بدأ باسل الأعرج يتلمس ملامحه من خلال تجربته وتجربة رفاقه في الحراك الشعبي الشبابي الفلسطيني.
أطلقوا على مجموعتهم اسم "الحراك الشعبي الشبابي"، وابتعدوا عن المناخات القديمة والأسماء التي فرغت من الدلالات وابتذلتها التنازلات وأوهام السلطة. مجموعات من المناضلين لا نعرف أسماءهم ولم نرَ وجوههم.
ومثلما فعل أسلافهم الفدائيون الذين غطّوا ملامحهم بكوفية ثوار 1936، تغطّى الفدائيون الجدد بالعمل السرّي، وبالتصويب على العدو الرئيسي الذي يتجسد في الاحتلال الإسرائيلي وفي الدولة الصهيونية.
"المثقف المشتبك" عند باسل الأعرج يذكّرنا بقصة "زمن الاشتباك" لغسان كنفاني. فالاشتباك يتم في لحظتين متكاملتين: الالتحـــــام بالناس، ومواجهة العدو المحتل. عرف باسل ورفاقه منذ اللحظة الأولى أن "كل البنادق يجب أن توجه نحــــو العــــدو" لم يملكوا سوى إرادتهم وقرارهم بالدفــــاع عن حقهم في الحياة.
كان باسل حالماً، فالثورات لا تبدأ إلاّ بالذين يحوّلون الحلم إلى ممارسة نضالية. وكان يعرف أنه محاصر بزمن التدجين والخوف. فاقترح على "المثقف المشتبك" أن يبدأ من لحظة نضال فردية لا بد من عبورها وعبور صحرائها كي تُشعل الشرارة السهل بكامله.
في مواجهة سياج التدجين الذي بنته السلطة التي لا تزال تتمسك بالوهم، وأمام جدران الخوف التي سيّجتها نماذج القمع الوحشي الذي يفكك دول المشرق العربي، وكردة فعل على هول النكبة التي تستمر في القدس وبقية أنحاء الضفة الغربية حيث يجد الاحتلال نفسه متحرراً من أي عائق يتصدى لجنونه، ولد المثقف الفدائي من جديد. قرّر هذا الصيدلي الشاب، وهو يشهد كيف وُوجهت انتفاضة السكاكين العفوية والفردية بالقمعَين الإسرائيلي والسلطوي، أن يتوّج هذه الانتفاضة اليتيمة بفعل ثوري يعطيها دلالاتها بصفتها مخاضاً طويلاً من أجل ولادة الفدائي الفلسطيني الجديد.
بدأ مسار اغتيال باسل الأعرج حين اعتقلته السلطة مع رفاقه: محمد حرب ومطلع سياج وسيف الإدريسي ومحمد السلامين وعلي دار الشيخ في نيسان / أبريل 2016 بتهمة الإعداد لعملية ضد المستوطنين، فتعرضوا للتعذيب، ولم يُفرَج عنهم إلاّ في كانون الأول / ديسمبر بعد إضرابهم عن الطعام، لكنهم أُحيلوا على محكمة الجنح في رام الله بتهمة حيازة سلاح غير مرخص. ومنذ لحظة إطلاقهم بدأت مطاردتهم من طرف جيش الاحتلال الإسرائيلي، فاعتُقلوا جميعاً باستثناء باسل الأعرج الذي نجح في الاختفاء.
فجر الاثنين 6 آذار / مارس 2017، اقتحمت قوات الاحتلال التي دخلت إلى المنطقة "ألف" التي من المفترض أن تكون تابعة للسلطة الأمنــــية الفلسطيــــنية، المنزل حيث اختبأ الفدائي، وقامت بإعدامه رمياً بالرصاص قبل أن تُصدر محكمة رام الله حكمها عليه!
ينتمي هذا الفدائي الشهيد إلى سلالة "العادلين"؛ إنها سلالة الثوريين الذين لم تلوّثهم السلطة أو المال. عادلون يناضلون من أجل العدالة للمضطهدين والمقموعين، ولا يأبهون لعدالة مجرمي الحرب الذين نصّبهم زمن الخنوع في موقع القضاة.
في وصيته، كتب الشهيد بلاغة الصمت الذي يحوّل الكلمة إلى فعل، وأمام جثمانه قال والده للضابط الإسرائيلي: "الله يرضى عليه، عمري ما شفتو أحلى من اليوم".
لم يقضِ باسل في اليأس، بل في ما بعد اليأس، هناك حيث تبدأ براعم الحياة في التفتح، وكتب لنا في وصيته أن علينا، نحن الأحياء، أن نبحث عن الأجوبة الملائمة.
إنها براعم أفق جديد لا يزال غامض الملامح، يتعلم أبجديته الجديدة في الممارسة، ويقترح احتمالات متعددة تدعونا إلى قراءة النص الحي الذي كتبته الكلمات والدماء. وكان على هذا الشاب أن يعلن بموته بداية نهاية زمن الهوان الفلسطيني.
الياس خوري