على تراب غزة وفى مشهد يهز القلوب و يخلو من كل معاني الإنسانية .. وتحت الجرافة التي لم تختلف عن عقلية أبت أن تكون من البشر، وتعترف بحق الآخر في العيش حياة حرة كريمة .. لم يلتفت السائق لجسدها النحيل وصوتها الذي بات صداه يهز الأرجاء .. لم ترحمها جرافة البطش الصهيونية..فكيف لفاقد الشيء أن يعطيه،ارتقت روحها النقية المناضلة في سبيل الحرية إلى سماء العلا تاركة رسالة خالدة للعالم أجمع تقول فيها ... لا وطن للإنسانية ولا حدود للدفاع عن الحرية .. ولا اختصاص للقضية..ولا خوف في قلوب عشقت ثرى أوطان تئن جوعا وعطشا لكل معاني التضحية، إنها راشيل كورى ذات الثلاثة والعشرين ربيعاً .. ولدت في قرية أوليمبيا في ولاية واشنطن .. ولدت ومعها حلم بأن تصبح كاتبة وشاعرة .. ولكن يداً غادرة منعتها من تحقيق حلمها.
من هنا نقول قصص فلسطين أكبر من مساحتها, ولقصة راشيل حبكة واقعية ميّزتها عن باقي القصص, وإنْ لم تفضلها عمّن رحلوا أيضا من أجل فلسطين. راشيل البطلة الأمريكية الحقيقية في رواية فلسطينية واقعية تتخطى المعاني التقليدية لمسألة الأنتصار للحق ، فهي الفتاة الغربية التي تعيش حياة المدن العصرية ولها قلب يوقعها في الحب, ومع ذلك يمكن أن ينشغل قلبها أيضاً بطفل بلا طفولة, وبمنزل في انتظار الإعدام, تماما مثلما ينشغل الفلسطيني بالنضال من أجل حريته وكرامته, لكن في قلبه متسع لقصص الحب أيضاً .
لكن أين راشيل اليوم من العرب , وأين العرب منها .! إنها الفتاة التي أخذت إجازة من جامعتها "إيفرغرين" لتنضم إلى حركة التضامن الدولية ,وتركت المدن الأمريكية ,ماودُع منا وما صخب, بما تغص به من أساليب الحياة العصرية , من سهولة العيش وحرية الحركة , والنوادي الليلية , وآثرت على كل ذلك أن تحط رحالها في رفح التي يمارس الفقر فيها ساديته , وينشب الحصار أظفاره في الجسد الفلسطيني، عرفت معنى حظر التجول ومغزى الحواجز العسكرية , ولمست بيدها جبين طفل ودّع طفولته , وجسّت بنفسها نبض العائلة الفلسطينية التي يزيد عدد افرادها عن العشرة ولا تأويهم سوى جدران متواضعة لا تسلم من أنياب "بلدوزرات" الاحتلال الإسرائيلي ولا سبطانات دباباته ، راشيل التي جربت كل ذلك كانت قد روَت بنفسها تجاربها الفلسطينية في 184 رسالة إلى والديْها , إلا أن تجربتها الأخيرة لم تستطع أن تروِها بنفسها, فرواها الرحيل,لأنها ببساطة تجربة الموت في فلسطين .
كل ما أردته هو أن أكتب عن راشيل التي وقفت امام البلدوز وهى تمسك مكبر صوت تهتف فيه متوقعة أن السائق سوف يقف لكنه لم يفعل فتسلقت الجرافة، لكن السائق حملها بالجرافة الممتلئة بالتراب و قلبها على الأرض ثم تقدم إلى الأمام ليمشى على جسدها مرتين، بعد ذلك حملها أصدقاؤها إلى المستشفى ولكنها كانت مهشمة الجمجمة حيث استشهدت دفاع عن فلسطين .
امام كل ذلك لم تغضب الادارة الامريكية ولا احد من ادارتها، بالطبع لن يحضر احد منهم او من ينوب عنهم جنازتها وعند الصلاة على جثمانها، لقد اعتبروها ارهابية الانتماء، وكان عليها بدلاً من ذلك ان تحمل سلاحاً وتقتل الفلسطينيين او تساهم بحملة للتبرعات المالية لبناء المزيد
من المستوطنات الصهيونية التي يبنيها الكيان الصهيوني محل المنازل العربية المهدمة ومحل المزارع الخضراء التي صادرتها بلديات هذا الكيان الغاصب ، او ان تقوم باقتلاع اشجارفلسطين وثمارها، كان على راشيل ان تعلن ان الفلسطينيين ارهابيون يقتلون الآمنين الصهاينة وان الولايات المتحدة الامريكية واركان ادارتها تقوم بعمل انساني ووطني في التصدي لهذا الارهاب وتحقيق الأمن والسلام في ربوع هذه الارض ، ولكن راشيل كوري انضمت الى قافلة شهداء فلسطين والأمة العربية واحرار العالم الابرار الذين سقطوا دفاعا عن قضيتهم وعشقهم للحرية والحق، لقد جئت يا راشيل من الزمن الاسفل وصعدت بمبادئك الى الملكوت الاعلى.. لقد صلبوك يا راشيل تحت فولاذ البلدوزر كما صلبوا أو هكذا تخيلوا انهم صلبوا السيد المسيح عليه السلام.. يقتلنا الخجل من نضالك نيابة عنا ويمسك الغضب حناجرنا أيتها الامريكية الإنسانية الفلسطينية الشهادة.
ختاما : لا بد من القول ، ان لراشيل كوري حصة في فلسطين من ارضها وسماها وهواها وأشجارها وترابها وشعبها ومن حقها ان تبقى خالدة في اذهان الشعب الفلسطيني وشعوب العالم .، لأن اغتيال راشيل كوري يؤكد الطبيعة العدوانية والعنصرية للكيان الصهيوني، ويمثل دفاعها عن القضية الفلسطينية تضامن الشعوب المحبة للسلام كافة مع هذه القضية التي هجرها أهلها من العرب، كما ان اغتيالها يعد جريمة تضاف الى جل جرائم الكيان الصهيوني المحتل ضد المدنيين العزل والمتضامنين مع الشعب الفلسطيني من الاجانب، حيث اثبتت ان شعوب العالم حية وترفض الظلم ووقفت ضد هدم بيوت شعبنا في رفح ، وقاومت سياسة القتل والتدمير الذي يقوم به الاحتلال الاسرائيلي وسقطت شهيدة تحت عجلات جرافة اسرائيلية صممت اسكات صوتها، فهي من يستحق اوسمة الشرف والبطولة.
بقلم/ عباس الجمعة