الأعرج: ثقافة اشتباك واستشهاد متقن

بقلم: أيوب عثمان

"المقاوم قاطع طريق لمشروع سياسي"                   (باسل الأعرج)

 

"كن نيصاً وقاتل كالبرغوث"                              (باسل الأعرج)

"بدك تصير مثقف، بدك تصير مثقف مشتبك، ما بدك مشتبك، لا منك ولا من ثقافتك"

(باسل الأعرج)

 

وهو يتحدث أو يطلق الرصاص أو يكتب، اعتاد الفدائي المثقف، باسل الأعرج، أن يعيدنا إلى ماض جميل كان فيه للكلمات معانيها المباشرة وغاياتها العزيزة، وأن يسترجع للمقاومة وأساليبها وأدواتها قيمتها وألقها ومكانتها، ما يجعلنا نسترجع معه – وبوحي من صادق فعله – صورة الفدائي الذي كان يبتدع في الليل وفي النهار من الأدوات والأساليب ما يتناسب مع موازين القوى التي يتربع النفاق والدجل السياسي العالمي والظلم الإنساني فوق صدرها، إذ كان يرى، في معظم الأحيان، رجحان التحيز والنفاق العالمي والعربي  ضد قضيته، فيقاتل بقوة وبأس وثبات مفعم بذكاء إبداعي يصيب العدو بالذهول ويوقع فيه أكبر خسارة ممكنة حين يعتمد أسلوباً مفاده: "اضرب عدوك وأوجعه، ثم اتركه يتلمس حواليه لتعود بعد بعض وقت إليه".

بحضور قوي لافت ومؤثر ومذهل، جسد باسل صورة الفدائي الجميل والسياسي غير المحزب و"المثقف المشتبك" الملتزم بقضية وطنه، والملتحم بهموم شعبه، والمعبر عن آلامه وآماله. لقد برز باسل على نحو متميز – بل ومائز – بين رموز الحراك الشبابي الثائر، وبين فرسان الانتفاضة الشبابية الحالية، فعرف كل قرى فلسطين وأمكنتها وكل دروبها وجبالها ووديانها وحبات رملها وأشجارها... عرف أدق تفاصيلها، فقد كان يجوب كل أنحائها في رحلات ميدانية متنوعة يصطحب فيها الشباب الذي اعتاد خلالها أن يحدثهم شارحاَ ومحاوراً، وناقداً، ومتلقياً حول أحداث ومعارك النضال الفلسطيني وكل ما ارتبط به من روايات المقاومة وحكايا الكفاح - الفردية منها والجمعية- منذ عام 1936 حيث الثورة الكبرى وحتى لحظه استشهاده فجر الاثنين، السادس من مارس، في مدينة رام الله التي تحتضن مقاطعة التنسيق الأمني العباسية وأزلامها.

ولأن باسلاً هو فدائي من نوع خاص، وباسل مثقف آمن بمنهج الاشتباك ونظَّر له، فقد اختار أن يرسم دربه على ذات النحو الذي نظَّر له وروَّج لإنجاحه وتعميمه. لم يوافق باسل على أن يوصف المقاتل كائناً من كان بـ"الأسطورة"، مبرراً ذلك بأن مقاومة الغاصب المحتل إنما هي فعل متاح لكل من أراد، غير أن العبرة إنما هي فقط في قوة الإرادة عند المقاوم ومضاء العزيمة فيه، وعلى ذلك فَحَرِيٌ بنا أن نتصور باسلاً – دون استغراب أو اندهاش – وهو يرفض وصفه بأنه "أسطورة"، تماماً كما كان يرفض أن يوصف بـ"الأسطورة" البطل يحيى عياش، الفدائي الشهيد الأكثر روعة والأكثر تألقاً وسحراً وتميزاً.

لم يكن باسل إلا فلسطينياً عادياً، لكنه كان ذا بطولة نادرة وثقافة مائزة. فعلى الرغم من رغبة الكثيرين الكثيرين أن يكونوه حتى العشق والأنانية، إلا أنه كان يرى قبل أن يرَوا هم وأكثر منهم وأعمق وأبعد، ما جعله على الدوام إلى صناعة الفعل أسبق، وفي إبداع المبادرة من العدم أعمق. 

كان باسل، "المثقف المشتبك"، طليعياً نادراً في طليعيته، فكان يقول ويدعو وينظًّر في ذات الوقت الذي كان يفعل ما كان يقوله ويدعو له وينظّر، دون أن يتعالي على من سواه من القاعدين الساكتين الساكنين، أو من غير القادرين على أن يجاروه أو يحاكوه، أو أن يبلغوا في المقاومة والاشتباك مبلغه.

"باسل مضى إلى النهاية"، كما قال رفيق له "إلى حدود الإثبات بالدم لصحة سرديته النقدية لظاهرة نشطاء النخبة...باسل رأى مصيره منذ البداية، وأشرف على تجهيز فصله الختامي بنفسه". إن هذه  لبطولة نادرة، حقاً.

لقد تميز باسل- بصفته "المثقف المشتبك"- عن المثقفين، ذلك أن ما لديه من ثقافة إنما هي تلك الثقافة التي تعين وعيه المقاوم فتزيد من رسوخه وثباته وتصعيده. لم يكن باسل ذلك الشاب الذي يقرأ فحسب، ولكنه كان قرَّاءً، بل كان ذلك القراء النهم الذي ينهال - بالقراءة العميقة والنقدية والواعية – على كل ما كان يرى فيه نفعاً ومراكمة وتوظيفاً واستثماراً لوعيه المقاوم.

"بدك تصير مثقف، بدك تصير مثقف مشتبك، ما بدك مشتبك، لا منك ولا من ثقافتك". هذه العبارة هي - في نظري - من أجمل وأفضل وأعدل ما كان يقوله الشهيد الفدائي المثقف المشتبك، باسل الأعرج- ابن قرية الولجة والمولود فيها منذ ثلاثة وثلاثين عاماً- الذي مارس ما آمن به فزاوج بكل التزام وعزيمة وقناعة ومضاء بين قوله وفعله، دون أن يؤجل فعلاً ربما حان  الآن موعده حتى ولو ليوم أو بعض يوم، انتظاراً لتحسن قد لا يأتي- في ظروف موضوعية هي في الأصل صعبة وقاسية ومعقدة- سواء على المستوى الدولي أو الإقليمي أو العربي أو الفلسطيني– الفلسطيني.

لقد ظلت الرصاصات القاتلة تبحث عن باسل في دياجير الليل وفي وضح النهار إلى أن اخترقت جسده وقتلته، فارتقى إلى الأعالي شهيداً من نوع خاص، تميز بصفاته النادرة وثقافته المشتبكة، ومكانته الشامخة في زمن رداءة فلسطينية غير مسبوقة، حيث الانقسام الفلسطيني– الفلسطيني والانقسام الفتحاوي- الفتحاوي،  والفساد السلطوي، والانحراف الرئاسي الذي يسوق تارة لشعبنا وهماً، ثم يروج له، وأخرى يلقي في وجهه أزمة، وثالثة يشمل بحضوره السلطوي المتورم وبعنايته الرئاسية الزائفة ورعايته الأبوية الخداعة والمخادعة حفلاً غنائياً، بينما يأمر أزلامه وأمن مقاطعته بالانسحاب بغية إفساح الدروب أمام قوة خاصة من جيش الاحتلال الصهيوني لتسهيل مهمة اقتحامها وتأمين دخولها لتمكينها من قتل باسل، ثم تصديره تعليمات لأمن مقاطعته، آمراً بقمع مسيرات التحية والإعلاء والشموخ لاستشهاد باسل، والتي تم الاعتداء فيها على أبيه بدلاً من تكريمه وشد أزره وحمل هم الفقد معه.

 لقد واصل أمن الاحتلال الصهيوني وأمن المقاطعة العباسية التعاون والمشاركة في البحث والتفتيش والتنقيب عن باسل بمقتضى قدسية التنسيق الأمني الصهيوعباسي، حيث كان من المفارقات العجيبة واللافتة أن والد الشهيد باسل، الذي كان الضابط الصهيوني قد أكد له أن ابنه (باسل) سيقتل لا محاله، هو ذاته والد الشهيد باسل الذي أهانه رجال عباس واعتدوا عليه بالضرب بينما كان ضمن وقفة شعبية أمام المحكمة تنديداً بها واستنكاراً لها واحتجاجاً على عقدها لمحاكمة باسل الذي كان قد انقضى على انضمامه إلى سجل الشهداء ستة أيام!

 لقد مضى باسل – الذي قضى في اشتباك عنيد بينما رشاشه في يده – إلى استشهاد لم يختره هو، ولكنه أجاده وأتقنه ليعلمنا كيف نتقن الاختفاء عن أعين العدو لحساب الهدف الوطني. لقد قضى باسل إلى شهادة اختارته ولم يخترها فأجادها وأتقنها كما لم يجدها ويتقنها أحد آخر على هذا النحو من قبل، ما ينبغي له أن يدفعنا- وإن على الرغم منا- إلى أن نخجل من أنفسنا حين نرى كم هو البون شاسع بينه وبيننا، فبينما نحن نكتفي بامتداح بطولة باسل، وقوة شكيمته، وسعة دربته، وعمق وتنوع واشتباك ثقافته، ها نحن نراه ونقرأه ونستمع إليه شهيداً يرثي حالنا وهواننا المعمد بصمتنا وسكوتنا وسكوننا، بعد أن علّمنا- ولم نتعلم بعد- كيف يكون إبداع الاختفاء، وكيف يكون إتقان الاستشهاد الذي من شأنه أن يحيي شرايين الموت فيسترجع نبض الحياة فيمن كانوا حوله من جديد.

أما آخر الكلام، فإنني لا أجد أوقع أثراً من سؤال ينتصب في وجوهنا، استنكاراً لصمتنا وسكوتنا وسكوننا، واستحثاثاً لنا بغية استنهاض الهمة فينا: "أينهزم شعب فلسطين وفيه من يؤمن بثقافة الاشتباك، ويقطع الطريق لنصرة مشروع سياسي، ويبدع في اختفائه كالنيص لكي يجيد في قتاله كالبرغوث، ويتقن استشهاده مثل باسل؟!"

بقلم: الدكتور/ أيوب عثمان

كاتب وأكاديمي فلسطيني

جامعة الأزهر بغزة