بين فترة وأخرى يطفو على سطح المشهد السياسي الحديث عن "دولة غزة". هكذا كان الأمر منذ وقوع النكبة وحتى الآن، إذ تطرح أوساط إسرائيلية، غالبًا من العاملين في مراكز الأبحاث والأجهزة الأمنية، وأحيانًا بعض السياسيين، فكرة مفادها أن أفضل حل للقضية الفلسطينية إقامة دولة في قطاع غزة. وذهب بعضهم إلى حد المطالبة بضم مساحات من سيناء حتى تتسع هذه الدولة للفلسطينيين من مناطق أخرى في الشتات والضفة الغربية، (وكأنّ مسألة التنازل عن جزء من الأراضي المصرية أمر سهل). بعض الفلسطينيين والعرب بحسن نية من بعضهم وبسوء نية من البعض الآخر يكون بمثابة رجع الصدى للأصوات الإسرائيلية.
كلنا يذكر إصرار الحكومة الإسرائيلية أثناء التفاوض بشأن تطبيق أوسلو على اقتصار "الانسحاب" على قطاع غزة أولًا، إلى أن تراجعت وصولًا إلى "غزة -أريحا أولًا"، ثم زار شمعون بيريز الرئيس الراحل ياسر عرفات في غزة وطرح عليه فكرة إقامة دولة في غزة، إلا أنّ أبو عمار رفض هذا الطرح.
وجاء تطبيق خطة شارون بخصوص "الانسحاب" من القطاع ليضع مسألة مصير قطاع غزة بمعزل عن بقية فلسطين، وخصوصًا عن مصير الضفة الغربية، على نار ساخنة، فهناك من اعتبر ذلك إنجازا تاريخيًا حققته المقاومة وبداية لدحر الاحتلال من الأراضي المحتلة عام 1967، بل بداية لزوال إسرائيل، رغم أن القطاع وفقًا للقانون الدولي لا يزال محتلًا، لأن إسرائيل لا تزال تُمارس من خلال الحصار والعدوان والتدخل المستمر كل أنواع التأثير عليه. وهناك من حذر من مخاطر خطة شارون الهادفة إلى انفصال القطاع والتركيز على تعميق الاحتلال والاستيطان في الضفة.
مع استمرار الانقسام السياسي والجغرافي منذ العام 2007، وفشل كل الجهود والمبادرات الساعية لإنهائه، لدرجة تعمّقه وسيره الحثيث نحو التحوّل إلى انفصال دائم حتى إشعار آخر، انتعشت الخطط الرامية للحل في غزة دون الضفة، بالرغم من أن أوسلو ينص على الوحدة الإقليمية بين الضفة والقطاع. لذا، لاحظنا جولات توني بلير من أجل إقامة هدنة طويلة الأمد مقابل ميناء ومطار وتخفيف الحصار، واستمعنا كذلك لتصريح نفتالي بينت الذي قال إن هناك دولتين للفلسطينيين: واحدة في الأردن، والثانية في غزة، ولا حاجة بهم لدولة ثالثة في الضفة!
كنت منذ فترة قصيرة في غزة، واستمعت لرأي الغزيين حول هذه الفكرة وغيرها، فوجدت أن الشعور الطاغي هناك أنّ الانقسام يتعمق. أما "حماس"، فتسعى لإقامة إدارة جديدة تعكس التغييرات في قيادتها بعد الانتخابات. في المقابل، فإن الرئيس أبو مازن لا يريد استعادة غزة، وهناك اتجاه عام في غزة بات يريد الخلاص بأي ثمن، لا سيما أن القطاع محاصر، وتنتشر فيه ظواهر خطيرة كمنتج طبيعي للوضع الذي يمر به، أهمها الانتحار على خلفية الفقر والعوز واليأس من الحياة والمستقبل، والتطرّف والتكفير للآخرين بمن فيهم "حماس"، وتفشي تعاطي "الترامادول"، إذ وصل عدد المتعاطين إلى حوالي 100 ألف متعاطٍ، فضلا عن البطالة التي وصلت معدلات فلكية، إذ تبلغ نسبتها بين الشباب حوالي 70%، إلى جانب مشاكل الكهرباء وتلوث المياه وتدهور الخدمات الصحية.
لا ينبغي تجاهل أن الاتجاهات المتحكمة بالقرار الإسرائيلي لم تطرح، وربما يستحيل أن تطرح مختارة، إقامة دولة في غزة أو غيرها، تمامًا لنفس الأسباب التي ترفض فيها إقامة دولة فلسطينية على أراضي 67، لأن إسرائيل تجسد مشروعًا استعماريًا استيطانيًا عنصريًا على حساب الشعب الفلسطيني، وتعتبر تجسيد الحلم الفلسطيني بإقامة دولة مستقلة وذات سيادة الخطوة الأولى نحو تحرير كل فلسطين.
إن ما يجري الحديث عنه إسرائيليًا لا يتعدى منح الفلسطينيين أشكالًا من الحكم الذاتي، حتى لو أطلق عليه بعض الإسرائيليين اسم "دولة". فالهدف الإسرائيلي الناظم لسياسة الحكومات المختلفة هو ضم أكبر مساحة ممكنة من أرض فلسطين مع أقل عدد ممكن من السكان؛ لكي تحافظ إلى الحد الأقصى على نقائها كدولة "يهودية"، وتضمن استمرار سيطرتها على كل فلسطين، لذلك انتعشت المشاريع الرامية لتحقيق هذا الهدف، من ضم مستوطنة "معاليه أدوميم"، مرورًا بضم كل الكتل الاستيطانية ومناطق (ج)، إلى ضم الضفة بأسرها.
في سياق المخططات الإسرائيلية، جاء "أوسلو" كتصفية للقضية وليس حلًا لها، وتم توظيف التنازلات الفلسطينية لخدمة هذا الغرض، كما ظهر في اعتراف القيادة الفلسطينية بحق إسرائيل في الوجود مقابل اعترافها بالقيادة والمنظمة، وليس بالحقوق. فالاعتراف الإسرائيلي لم يتضمن أي حق من حقوق الفلسطينيين، ولا حتى حقهم في إقامة دولة، ولو على جزء من فلسطين. وعندما تتحدث الأوساط الحاكمة في إسرائيل عن "دولة"، مثلما تحدث نتنياهو أكثر من مرة، فهي لا تقصد دولة كما هي الدول ذات السيادة، وإنما "دولة" لا تملك من مقومات الدول إلا الاسم.
هكذا الأمر الآن فيما يتعلق بغزة، فلا يوجد طرح إسرائيلي رسمي بإقامة "دولة"، وإنما محاولة لفرض أوسلو جديد على "حماس"، التي تتعرض لاختبار مماثل للاختبار الذي اجتازته "فتح"، ويتمثل بتقديم ثمن الاعتراف بها وليس الاعتراف بالحقوق الفلسطينية، فالمطلوب منها هدنة ووقف المقاومة مقابل تخفيف شروط الحصار، وإذا أرادت أكثر عليها الدفع أكثر.
الجديد المقلق إزاء الوضع المتدهور في القطاع واستمرار الانقسام، أن هناك من بات يفكر بأوسلو الخاص بغزة (ولو بمسميات مختلفة) تحت تأثير قناعات تتحول إلى غطاء حول قرب زوال إسرائيل، على أساس "ما حدا أحسن من حدا"، ولا خيار لإنقاذ غزة سوى الاتفاق مع إسرائيل عبر مفاوضات غير مباشرة، لدرجة أن هذا الرأي ينتشر بين أوساط البعض في "حماس" و"الجهاد" ومختلف الفصائل ولدى العموم، بينما الهدف الحقيقي تخفيف الحصار أو إزالته وليس إقامة دولة غزة، لأن الجميع يدرك أن إسرائيل التي تدخلت حتى في تصميم "أوتوستراد صلاح الدين" في غزة، الذي أقيم بدعم من شركة الاتصالات وقطر، لكي لا يستخدم كمطار (ويقال إن القطاع محرر)؛ لا يمكن أن تسمح بإقامة دولة تكون قاعدة انطلاق للتحرير.
الأسوأ من ذلك أن هناك من أخذ يدرك ذلك، وبات يتساءل: ما حاجة غزة للأنفاق والأسلحة الهجومية؟ ولماذا ربط مصير الضفة بالقطاع؟ على أمل أن يفتح ذلك طريق إقامة دولة غزة، متناسيًا مصير دولة الضفة!
لا دولة في غزة ولا في الضفة ولا في أي مكان أو بقعة إلا بالتحرير، أو عندما يصبح الاحتلال مكلفًا لإسرائيل وخسائره أكبر من أرباحه. وعندما "انسحبت" إسرائيل من القطاع فعلت ذلك جراء كثافته السكانية وضربات المقاومة، ولأن شارون رأى، وهذا هو الأهم، أن "الانسحاب" من غزة من شأنه تمكين إسرائيل من استكمال ابتلاع الضفة، وإلقاء القطاع في حضن مصر، وجعل زمام المبادرة بيد إسرائيل من خلال قطع الطريق على أي خطط ومبادرات لا تناسب إسرائيل، ويساعد على وقوع الانقسام بين الفلسطينيين، ويرسل رسالة للعالم مفادها أن الفلسطينيين غير جديرين بإقامة دولة. وهو ما يدفع للتساؤل: إذا كانت المقاومة وحدها قد حررت القطاع، فلماذا تقف عاجزة عن رفع الحصار عنه، علما أنه يعتبر شكلًا من أشكال الاحتلال، ولكن عن بعد؟
لا دولة في غزة ولا دولة من دون غزة، ومن لا يصدق يمكنه العودة إلى التصريحات الأخيرة لنتنياهو وليبرمان اللذين رفضا فيها أي سيادة للكيان السياسي في قطاع غزة.
الدولة حق طبيعي للفلسطينيين واعترف العالم به من خلال قرار الجمعية العام للأم المتحدة (19/67). المهم الآن كيف يمكن تجسيد الاستقلال الوطني وممارسة السيادة وإزالة الاحتلال والحصار وإنهاء الانقسام؟
هناك طريق واحد لإنجاز هذا الهدف، وهو النضال والعمل المتراكم التدريجي لتغيير موازين القوى، وهذا غير ممكن من دون وحدة وطنية على أساس وطني وكفاحي وديمقراطية توافقية، وغير ممكن من دون إعادة بناء المؤسسة الوطنية الجامعة على أساس الرؤيا الشاملة، وشق مسار سياسي جديد - قولًا وفعلًا - مختلف كليًا عن المسارات التي اتبعت حتى الآن. مسار يراهن على الشعب وبالشعب من أجل الشعب.
بقلم : هاني المصري