بين الرد السوري والاستدعاء الروسي ، ثمة تطورات وتحولات لافتة في توقيتها ، لا يمكن تجاهلها أو المرور عليها مرور الكرام . الرد السوري الروسي المزدوج ، على الغارة " الإسرائيلية " ، التي نفذتها طائرات العدو الصهيوني على موقع سوري بالقرب من تدمر ، فرضّ وسيفرض على الكثير من كبار المراقبين والمحللين والإستراتيجيين العسكريين ، وفي مقدمة كل هؤلاء من هم في دوائر القرار في " إسرائيل " ، التوقف ملياً وبتأني أمام هذا التطور الإستراتيجي في الموقفين لكل من القيادتين السورية والروسية . والذي جاء صاعقاً ومدوياً ومن خارج سياق كل التوقعات ، لا تزال أصدائه تتردد في أكثر من عاصمة من دول العدوان على سوريا . من دون مقدمات ، دوت أخيراً صفارات الإنذار " الإسرائيلية " على طول المستوطنات في غور الأردن ومدينة القدس ، التي وإن أصابت المستوطنين بالرعب والخوف ، فهي أولاً أصابت أصحاب القرار في الكيان في حالة من الذهول والإرتباك دفعهم إلى المسارعة في الاعتراف الغير مسبوق ، أن طائراتهم نفذت غارة على ما درجوا في تبريراتهم أن شحنة من الصواريخ كانت في طريقها إلى حزب الله .
سؤال يفرض نفسه بقوة ، ما هي الدوافع التي وقفت خلف هذه التحولات والتطورات ، والتي جاءت ما خارج التوقعات ؟ . لم يعد خافٍ على أحد ، أن مشهد الميدان السوري خلال العام 2016 وحتى الآن شهد تطورات هامة ، حيث تمكن الجيش العربي السوري وحلفائه من إحداث تغيير جوهري في سير المعارك التي يخوضونها على أكثر من جبهة في العديد من المدن وأريافها ، في مواجهة المجموعات المسلحة بمختلف مسمياتها وتلاوينها ، ومن خلفهم داعميهم ومموليهم ومشغليهم . الأمر الذي أحدث وبالترابط مع المسار الميداني قفزات وتحولات على المسار السياسي من خلال التخلي عن السقوف العالية جداً التي كانت تطرحها الأطراف المتورطة دولياً وإقليمياً بمن فيهم الكيان " الإسرائيلي " ، وبشكل متدرج منذ مؤتمر أستانة الأول وجينف 3 وجينف 4 ، والخامس على الطريق إذا ما دخلت الأطراف المتورطة على خط العرقلة ، كما حصل في مؤتمر استانة الأخير ، حيث تم تهريب حضور وفود المجموعات المسلحة من خارج النصرة وداعش عن المؤتمر . وهنا علينا ألاّ نغفل عن التطور المستجد على الساحة الدولية ، والذي تمثل بمجيء دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية ، وما سيتركه من تأثير في مجريات الأحداث في المنطقة .
من دون الاسترسال والإغراق في التفاصيل والسرديات ، الواضح أن مقدمات تلك التطورات والتحولات يعود الفضل فيها للتغير الجوهري والإستراتيجي في الحرب التي تخوضها سوريا وحلفائها في مواجهة الإرهاب ، وبالتالي القراءة السورية والروسية والإيرانية الدقيقة للتحركات التي شهدتها الساحتين الدولية والإقليمية بما يتعلق باحداث المنطقة وتحديداً في سورية ، بعد الانتصار الإستراتيجي الذي أفضى إلى تحرير حلب العاصمة الثانية في سورية . ومن هذه التحركات ، تلك التي بدأها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان باتجاه المملكة السعودية ودول خليجية أخرى ، بهدف ترميم العلاقة وإعطاء دفعة جديدة لتحالفهم ضد الدولة السورية وإعادة تنشيط ذاك التحالف المتهاوي نتيجة لتناقض المصالح وتعارضها في مرحلة الانقلاب التركي الفاشل ، ومحاولة أردوغان إعادة تموضعه ولو تكتيكياً . وكان قد سبقها محاولة أردوغان استرضاء القيادة العراقية من خلال زيارة رئيس وزرائه إلى بغداد لتنفيس الإحتقان الذي وصل حد غبر مسبوق من التأزم والتهديدات المتبادلة بين البلدين . وكانت تلك أولى اشارات الانعطافة التركية البعيدة عن تفاهمات الرئيسين الروسي والتركي عقب اعتذار أردوغان عن إسقاط الطائرة الروسية ، ومن تلاها من عودة للعلاقات بين البلدين . وكان الموقف الإيراني في التعبير عن الاستياء من تلك الانعطافة هو الأوضح ، حين وصف وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف ، متهماً تركيا أن ذاكرتها ضعيفة وناكرة للعرفان ، في إشارة واضحة إلى وقوف إيران إلى جانب أردوغان أثناء محاولة الإنقلاب الفاشلة على نظام حكمه . وبالتالي التوغلات التركية التي انتهت بدخول مدينة الباب في الشمال السوري ، مما دفع الجيش السوري وحلفائه التحرك لقطع الطريق على التمدد التركي نحو مدينة منبج ، التي تمركزت في قراها قوات مشتركة سورية وروسية ، خطوة جاءت بعد القصف التركي موقع للجيش السوري . وعلى خط أخر اندفع الجيش العربي السوري بموأزرة من الحلفاء وغطاء جوي روسي مرة جديدة نحو مدينة تدمر محرراً إياها من يد تنظيم داعش . الأمر الذي دفع كل من أردوغان ونتنياهو ليسارعوا الخطى نحو العاصمة الروسية للقاء الرئيس بوتين يحمل كل منهما هواجسه ومتطلباته إزاء التطورات الميدانية السورية . وما سربته وسائل الإعلام والتصريحات وخصوصاً عن زيارة نتنياهو بعد القمة التي جمعته مع الرئيس بوتين ، لم تتوصل إلى نتائج مرجوة كان يسعى إليها نتنياهو ، والتي تمحورت حول الشكوى من الدولة السورية التي منحت إيران الموافقة على إنشاء قاعدة بحرية لها على البحر المتوسط ، ومن ثم الرعب من الهزائم المتلاحقة التي يمنى بها تنظيم داعش مما يعني القضاء عليه لصالح تواجد واضح لإيران في منطقة الجولان ، بالإضافة إلى مطلب حرية استخدام المجال الجوي السوري إثناء طلعاته الجوية في الإغارة أو الاستطلاع .
وما يؤكد أن جولة أردوغان الخليجية قد أثمرت عن نتائج ، وبالتالي فشل زيارة نتنياهو إلى موسكو ، ما شهدته العاصمة السورية دمشق من سلسلة من التفجيرات الدموية خلال فترة زمنية قصيرة ، وهي لم تشهدها منذ أكثر من 3 سنوات ، لتأتي الغارة التي شنها الطيران " الإسرائيلي " على موقع سوري بالقرب من تدمر ، والرد السوري القوي عليه ، حيث أطلقت الدفاعات الجوية ولأول مرة صواريخ من نوع ( أس أي 5 ) ، الأمر الذي استدعى القيادة العسكرية في الكيان " الإسرائيلي " إلى إطلاق صواريخ ( حتيس ) المتعرضة للصواريخ البالستية ، وما تلا ذلك من إطلاق صفارات الإنذار في كل من القدس والأغوار . هذه الحادثة التي لا زالت تشكل حالة من الإرباك للقيادات السياسية والعسكرية والأمنية في " إسرائيل " . وهذا الرد ، ومن ثم استدعاء السفير " الإسرائيلي " في موسكو احتجاجاً على الغارة ، ومن ثم إسقاط طائرة استطلاع في الجولان ، إنما هي الرسالة الأقوى في أن قواعد اللعبة قد تغيرت . نعم الخطوة التكاملية في الرد السوري الروسي المتقاطعة مع إيران لم تكن إلاّ ثمرة للتفاهمات والتوافقات لتلك الدول حول إستراتيجية الرد على خطوات عدائية وعدوانية تتخذها أطراف دولية وإقليمية تقودها الولايات المتحدة التي سارعت في إرسال قواتها البرية ( 1500 جندي وخبير ) لتموضع نفسها فيما أطلقه القادة الأكراد بعملية تحرير مدينة الرقة التي ستبدأ في الأول من نيسان القادم ( كذبة نيسان ) ، وهذا مشكوك فيه استناداً لحقائق التجارب السابقة في أفغانستان والعراق ( مئات الآلاف من الجنود والعتاد والطيران وخرجت مهزومة ) . ومن ثم اشتعال جبهات جوبر والقابون وحماه واللاذقية ، والتحضيرات التي تجري في الجنوب السوري مع اقتراب موعد جينف 5 ، ما كان ليحصل لولا تأمين الغطاء من المشغل الإقليمي السعودي والتركي و" الإسرائيلي " . والملاحظ أن من يتقدم أو يتصدر تلك الهجمات هي جبهة النصرة ، ومن خلفها كل مسميات المجموعات المسلحة الأخرى ، وكأن من بين أهداف هذا التصعيد هو تسويق النصرة في ظل الغياب المتسارع لتنظيم داعش على أكثر من جبهة على الجغرافية العراقية ومن ثم السورية .
ما تشهده الجغرافية السورية من تصعيد عسكري من قبل المجموعات المسلحة والدخول " الإسرائيلي " المباشر على خط هذا التصعيد ، ثمرة لتلك التفاهمات والتوافقات وبمباركة أمريكية لحلفائها السعوديين التي أبرم ولي ولي عهدهم ما أسماه بالصفقة الكبرى ( 200 مليارد دولار ) ، ومن ثم الأتراك الذين تتعثر قيادتهم أكثر فأكثر نتيجة سياساتها وليس أخرها الحرب الإعلامية والسياسية مع أوربا . يؤشر بشكل واضح إلى أن هذه الأطراف ليست قانعة بالحل السياسي وفق الرؤية الروسية التي تراعي جميع الأطراف التي حضرت إلى الاستانة ( قد يكون أصبح في خبر كان ) ، وجينف وإبقاء المشاغلة على خطه حتى لا يصل للنتائج المتوخاة ، إلى أن ترتب الولايات المتحدة وحلفائها المشهد بما يجعلهم قادرين على المشاركة بصياغة الحل السياسي إلى جانب الروسي والإيراني والسوري ، بما يعني ألاّ تستحوذ الأطراف الثلاثة على الحصة الأكبر من كعكة هذا الحل الذي لا يزال رهينة ما ستتمخض عنه نتائج معركة الرقة ومناطق الشمال الشرقي ، وما يُحضر على الجبهة الجنوبية والجنوب الشرقي من سورية .
وإلى حينه ستبقى الجغرافية السورية شاهدة على سخونة المعارك ، التي قد يُسرع هذا التصعيد من تفعيل لخطط كانت مؤجلة من قبل الأطراف الثلاثة الروسية والإيرانية والسورية التي قررت مواجهة هذا التصعيد ، والذهاب إلى تذليل لما كانت تسربه وسائل إعلامية عن تباينات بينها حول أولويات فتح المعارك وحسم الجبهات . ووقائع الغارة " الإسرائيلية " على موقع قرب تدمر والرد العسكري السوري النوعي عليه ، ومن ثم الاستدعاء الروسي للسفير " الإسرائيلي " لديها ، يؤشر بقوة في هذا الاتجاه .
رامز مصطفى