الانتقائية حيال إسرائيل، التي بتنا نعايشها ونتعايش معها منذ عقود طوال، هي وريثة عقود أخرى من انتقائية التأسيس لمن يرون في ذواتهم "مجتمعاً دولياً" يمتلك سلطة الأحكام، وتحديد المفاهيم، ومد حبل الجرائم على امتداد العالم، من دون العودة إلى مرجعية حاسمة، تفصل في مسؤولية القائمين بتلك الجرائم الصغرى قبل الكبرى، طالما هي موجهة ضد الإنسانية، أم أن هناك أكثر من هوية لإنسانية عالمنا المعاصر؟
لهذا ما كان ممكناً أن تنصاع الدكتورة ريما خلف، كما انصاعت الأمم المتحدة، لهيمنة الولايات المتحدة وإسرائيل وأضرابهما من دول العالم، حين تجاهلوا وصدموا بفعل الحقائق التي احتواها تقرير (الإسكوا)، فطلبوا من الأمين العام الجديد أنطونيو غوتيريش الخضوع لمطلبهم سحب التقرير، فما كان من الدكتورة ريما سوى مخاطبة العقل والإنسان في رفضها ذلك الموقف المدان، لتعلنها على الملأ أنها وهي الإنسانة الحرة لا "الموظفة العبدة": "أؤمن - شأني في ذلك شأنك- بالقيم والمبادئ الإنسانية السامية التي طالما شكلت قوى الخير في التاريخ، والتي أُسست عليها منظمتنا هذه، الأمم المتحدة. وأؤمن مثلك أيضاً بأن التمييز ضد أي إنسان على أساس الدين أو لون البشرة أو الجنس أو العرق أمر غير مقبول، ولا يمكن أن يصبح مقبولاً بفعل الحسابات السياسية أو سلطان القوة. وأؤمن أن قول كلمة الحق في وجه جائر متسلط، ليس حقاً للناس فحسب، بل هو واجب عليهم".
هكذا من واقع كونها إنساناً سوياً، ومن كونها شخصية سياسية ومهنية تعتد بمواقفها الموجبة والملزمة لها، كما يجب أن يكون لغيرها، رفضت وبعناد أن تنساق خلف واحدة من أكبر عمليات التزوير في التاريخ، تاريخ المجتمع البشري، وليس تاريخ المجتمع الدولي فحسب، حيث المقايضات والمساومات تتم بنذالة منقطعة النظير، وفي العهد الترامبي الجديد، وفي مسلسل صفقاته وعقليته "العقاراتية" أصبحت الموازنات المالية تمنح للذين يتنازلون عن مواقف سياسية معينة، في تجاهل لحقائق دامغة يراد إخفاؤها وعدم تحميل القائمين بها المسؤولية المباشرة، عن جرائم كتلك التي احتواها تقرير "الإسكوا".
التقرير يجب أن يعمم، لا أن يُسحب من التداول، وحتى لا تحمل ضميرها ذنوب التزوير والتدليس، فضلت ريما خلف أن تستقيل على أن تخلف وراءها سردية خيانة ضميرها وسويتها الإنسانية، مسجلة أنصع الصفحات للتاريخ، تاريخ كرامة الإنسان الحر الذي لن تقهره الصعاب والشدائد مهما بلغت. وقضية الشعب الفلسطيني في مواجهة احتلال مجرم، بات هو الوحيد، وأن لم يكن الأوحد، في سلوك سياسات الأبارتهايد والتمييز العنصري، تستدعي الكثير من التضحيات، والكثير من تذليل الصعاب من أجل الانتصار لها، وهذا ما فعلته ريما خلف من دون أن تحسب أي حساب لوظيفة رمتها خلف ظهرها لتستأنف حياتها براحة ضمير، وعقل ينضح انسجاماً وسوية.
أما الانحياز المكشوف والمفضوح من قبل بعض المجتمع الدولي، المؤثر والفاعل، إلى جانب ارتكابات الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه الفاشية، فسيبقى السمة الغالبة على تحركات وجهود ذاك المجتمع المنحاز بالأصل، فهل يمكن الرهان عليه في أن ينتصر أو يدعم تسويات عادلة لقضايا شعوبنا، وفي مقدمها القضية الوطنية لشعب فلسطين؟ ومن دون الاعتراف بجرائم الاحتلال وإدانته ومحاكمته، ووقف الكيان المرتكب الأكبر للجريمة الأصلية المؤسسة عند حده، لن يكون المجتمع الدولي سوى كذبة كبرى، بشهادة ترامب وأمثاله من أنظمة الاستبداد والمشاريع الطائفية والحكام السلطويين.
ماجد الشّيخ
* كاتب فلسطيني