فهذه الشخصية الاستثنائية غلبت قناعتها الفكرية والانسانية بشجاعة منقطعة النظير على بريق المنصب والمال والشهرة وآثرت أن تنتصر لمبادىء الحق والعدل والحرية مقدمة البرهان والدليل على أن الأشخاص الذين يخلدهم التاريخ وتكتب اسماؤهم بأجرف من نور في سجلات العز والمجد هم اولئك الأحرار الذين يغلبون مصالح الناس على مصالحهم الشخصية ويرفضون الخضوع لأصحاب النفوذ والسطوة والاستكبار مهما كان ثمن ذالك باهظا .
وإذا انتقلنا من الخاص الى العام فان منظمة الأمم المتحدة التي قال ميثاقها إنها أنشئت لحفظ السلام والأمن الدوليين كانت هي المسؤولة , بسبب هيمنة الولايات المتحدة الامريكية , على مفاتيح القرار الدولي , في أعقاب الحرب العالمية الثانية عن شرعنة جريمة اغتصاب فلسطين وأقامه اسرائيل وتشريد الشعب الفلسطيني في أصقاع الأرض .
ورغم إن المجال لا يتسع هنا للحديث التفصيلي , فان كافة المصادر التاريخية , وارشيف المنظمة الدولية ذاته تؤكد بان قرار تقسيم فلسطين الصادر في 29/11/1947 والذي نص ظلما وعدوانا على تقسيم الوطن التاريخي للشعب الفلسطيني الى دولتين يهودية وعربية وتدويل القدس , لم يكن ليرى النور لولا الضغوط الامريكية التي مورست على العديد من دول العالم مما اجبرها على تغيير موقفها وتأييده بعد أن كانت قد رفضته في التصويت الأول .
وهنا وعلى الرغم من أن بريطانيا الاستعمارية كانت هي المسؤولة عن جريمة اغتصاب فلسطين منذ أن أصدرت وعد بلفور المشؤوم ومكنت العصابات الصهيونية المسلحة من إقامة دولتها في 15 أيار 1948 ومسرحية الحرب العربية الاسرائيلية في ذالك العام , والأعوام التي أعقبته فان الأمم المتحدة , التي كانت تهيمن عليها الولايات المتحدة الامريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية كانت هي المسؤولة أخلاقيا , عن جريمة الاحتلال لانها لم تحرك ساكنا لإجبار اسرائيل على تطبيق الشق المتعلق بالدولة الفلسطينية من القرار وتركها تلتهم حدود تلك الدولة.
وقد عبر عن ذلك شاعرنا الفلسطيني الكبير الراحل لطفي الياسيني حينما قال في مطلع احدى قصائده الخالدة
رام اليهود بأرض القدس مملكة خاب اليهود وخابت هيئة الأمم.
وقد تكرر ذلك السيناريو حينما اصدر مجلس الأمن الدولي القرار 242 في أعقاب احتلال اسرائيل لما تبقى من الاراضي الفلسطينية في حرب حزيران 1967 حيث إن ذلك القرار لم يطبق , وكذلك القرار (338) الذي صدر في أعقاب حرب 1973 العربية الاسرائيلية وبعدهما وما بينهما عشرات القرارات المماثلة الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة .
ولا يفوتني في هذا المجال أن اذكر أن ضعف وتخلف النظام الرسمي العربي حتى في مجال العمل الدبلوماسي كمحصلة لحالة الضعف والتبعية التي يعيشها على الأرض , لم تمكنه حتى من استغلال قرارات الأمم المتحدة الخاصة باسرائيل والصراع العربي – الاسرائيلي لعزل الدولة العبرية واثبات عدم شرعيتها .
ويكفي هذا السياق أن نذكر بان طلب عضوية اسرائيل في الأمم المتحدة كان قد ربط بشرطين ,وهما أن تكون دولة محبة للسلام ( وهو شرط يطلب من أي دولة ) وان تطبق شرط إقامة الدولة العربية الفلسطينية بموجب قرار التقسيم لعام 1947 وبالتالي القرار (194) الخاص بعودة اللاجئين الى ديارهم التي طردوا منها عام 1948 , وبالتالي فان وجودها غير شرعي.
واذا عدنا الى موضوع الدكتورة ريما خلف وتحدثنا بعبارات صريحة فان تكريم انسانة عظيمة مثلها يجب أن يتجاوز حدود الإشادة بشجاعتها الى حدود الاستفادة من الدروس والعبر التي يجب استخلاصها مما فعلته .
تلك المرأة أرادت أن تقول للسياسيين وصناع القرار في بلادنا ومنطقتنا إن الرهان على الولايات المتحدة التي أجبرت ضغوطاتها على الأمين العام للأمم المتحدة سحب تقرير " الايسكوا " وقبله القرار الذي يساوي بين الصهيونية والعنصرية الصادر في العام 1975 , هو رهان خاسر ولا فائدة منه اليوم في عهد ترامب , كما لم تكن فائدة منه في عهد من سبقوه من رؤساء تعاقبوا على البيت الابيض.
فهذه الدولة المارقة كما وصفها اليهودي –الامريكي –المخضرم – ناعوم تشومسكي , هي المسؤولة أمام التاريخ عن استمرار معاناة الشعب الفلسطيني لانها هي على وجه التحديد من يدعم اسرائيل بالمال والسلاح المتطور وهي التي تدافع عن ممارساتها العنصرية إزاء الشعب الفلسطيني وتوفر لها الحماية في المنظمات الدولية وعندما تتعرض لخطر وجودي , تهب لانقاذها .
وعلى ضوء كل ما تقدم فان الرسالة التي أوصلتها لنا الدكتور ريما خلف واضحة عنوانها كفّوا عن الرهان على الولايات المتحدة , وراهنوا فقط على الشعب وابحثوا عن تحالفات مع القوى الإقليمية المعادية للهيمنة الامريكية والاسرائيلية ومع القوى الدولية الصاعدة وتحديدا روسيا على قاعدة المصالح المتبادلة .
