الشرق الاوسط الجديد والشرق الأوسط الكبير مصطلحان سمعنا وقرأنا عنهما في اكثر من دراسة وأكثر من تحليل، وتم تداول هذه المصطلحات في الماضي القريب كاستراتيجية امريكية بمباركة وسكوت غربيين لترتيب الشرق الاوسط كما يرغبون، بما يزيد من هيمنتهم على الشرق والقبض بحكمة عليه، ووضع الكل، من شعوب وحكومات ومصادر وثروات تحت تصرفهم.
باختصار شديد هم أرادوا وخططوا لتجزئة المجزأ وتقسيم المقسم لكي يبقى الشرق الاوسط ساحة لألاعيب مصالحهم الكولونيالية وليبقى شغله الوحيد صراعاته الداخلية وحروبه الاثنية والطائفية التي خطط لها الاستراتيجي الامريكي كجزء من مشروع شرقه الاوسط الجديد.
لتحقيق هذا الهدف، بناء شرق اوسط جديد، والذي كان ركن أساسي لاحكام الهيمنة الامريكية على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وفشل التجربة الاشتراكية وإطلاق العنان للعولمة المتوحشة، استعملت المؤسسة الامريكية كل أساليب حنكتها السياسية والعسكرية والدبلوماسية عبر ربع القرن الماضي.
اربعة رؤساء لامريكا حاولوا وجربوا كل ما بحوزتهم من خطط وأسلحة وتأثير لتحقيق هذا الهدف. وها نحن الآن شهود على بداية فشل مشروعهم الكولونيالي.
بعودة سريعة الى شريط التاريخ وسيرورته نرى ان كل ما رسمته وخططت له المؤسسة الامريكية لتثبيت عولمتها الوحشية عبر تدجين الشرق الاوسط (كجزء من خطة العولمة الشاملة وتثبيتها) وإعادة بناءه على مقياسها، لم ينجح. لا الحروب المباشرة عبر قوتها العسكرية كما حصل في تدمير العراق وتدمير ليبيا ولا الحروب التي افتعلها حلفاءها بالشرق من الحرب الصهيونية الدائمة على شعب فلسطين مروراً باشعال فتيلة الحرب الأهلية في الجزائر والحرب الباردة بين المغرب والجزائر والحروب والمعارك المتعددة على لبنان وتجزئة السودان والحرب على سوريا والحرب على اليمن وافتعال القتال الداخلي عبر الاغتيالات السياسية كما حصل مع المرحومين الحريري وياسر عرفات، كما ولم تنجح ايضاً سياسة السوط والجزرة الامريكية عبر المفاوضات العبثية لسلام كاذب بالشرق الاوسط والربط الاقتصادي بالهيمنة الامريكية والصهيونية.
وايضاً سياسة احياء السلطنة العثمانية الجديدة بقيادة الاخواني التركي اوردغان وبمساعدة شُعّٓبْ الاخوان في العالم العربي لم تنجح وانكسرت امام الصمود الأسطوري السوري.
الشرق الاوسط الجديد الذي ارادته الولايات المتحدة ومؤسساتها الحاكمة من مخابرات ومراكز دراسات وبنتاغون ودبلوماسية، كان يجب ان يقوم على اربع مسلمات.
أولاً: التفوق العسكري لإسرائيل وضمان وجودها الابدي، وثانياً: إشعال فتيلة الصراعات الطائفية والإثنية ومن ثم تجزئة الدول، التي أسستها "سايس بيكو"، بحجة نزع فتيلة هذه الصراعات التي اضرموها بخططهم، وثالثاً: . احكام قبضة الحكم للعائلات المالكة التي تعمل لحساب الادارة الامريكية منذ عشرات السنين وعلى رأسها آل سعود، وأخيراً: الإجهاض على القضية الفلسطينية اما بموافقة قيادة فلسطينية على حل يرضي اسرائيل وأما بتجاوز القضية على المستوى العربي الرسمي.
كما ذكرت سابقاً فان هذا كله لم ينجح كما خطط له. اليوم نتابع يومياً إخفاقات هذه الاستراتيجية ونرى نتائج فشلها الذريع على الارض.
بقراءتي وتحليلي للواقع السياسي في الشرق الاوسط، انطلق من اننا أصبحنا امام واقع شرق اوسطي متجدد (متجدد لانه لم يكتمل بصورته النهائية حتى الان، رغم ان معالمه تزداد يوما بعد يوم وضوحاً على الارض)، يختلف تماماً عما كان عليه قبل ستة سنوات ويختلف هذا الواقع بنقاط أساسية عما رسمته وخططت له الادارة الامريكية في ربع القرن الماضي.
معالم هذا الشرق الاوسط المتجدد يمكن متابعتها بالنقاط التالية:
أولاً: مشروع العثمانية الجديدة بقيادة اخوانية تركية ومشاركة اخوانية عربيه بالدول المحورية للهيمنة على الشرق الاوسط اصبح في خبر كان. وليس هذا فحسب، بل ان مكانة تركيا كفاعل أساسي في الإقليم أصبحت الان في ازمة وكذلك الحركة الاخوانية العربية في ازمة، واتوقع ان مكانة تركيا الإقليمية وقوة تأثيرها سوف تنحصر اكثر بأكثر.
ثانياً: . الشعب الفلسطيني يبتعد يوماً بعد يوم عن قيادته السياسية وخياراته النضالية لدحر الاحتلال لم تعد تتقاطع مع خيارات القيادة بعد ان سند الشعب ظهرها ببداية العملية السلمية وأعطاها فرصة طويلة لإثبات ان النوايا الصهيونية تجاه الشعب الفلسطيني وقضاياه المصيرية قد تغيرت. بكلمات اخرى: ترويض الشعب الفلسطيني فشل وخيار المقاومة باشكالها المتعددة وخصوصاً المقاومة الشعبية اصبح هو الواقع الجديد للحالة الفلسطينية.
ثالثاً: الخطة الامريكية لتغيير أنظمة الحكم في الشرق الاوسط بالقوة كما حصل في ليبيا وسوريا لاقت فشلاً ذريعاً. نحن الان بالحالة الليبية نتكلم عن شبه دولة وشبه حكومه وانفلات أمني كامل. مؤسسات الدولة لم تعد موجودة ولم يتكون بديل عن القديم. في سوريا صمد الشعب والقيادة امام مشروع التدمير والتقسيم ووقف الجيش خلف الرئيس والقيادة السياسية ومنع تفكك البلد كما خطط له. صمود سوريا شعباً وقيادة اصبح منارة وبرنامج نضالي تقتدي به شعوب المنطقة.
إن صمود سوريا كان خشبة التابوت الاساسية لدفن مشروع الشرق الاوسط الجديد الامريكي بتشعباته المختلفة، وكان ايضاً العمود الفقري لبداية بناء الشرق الاوسط المتجدد.
رابعاً: . القوى الإقليمية المؤثرة، مصر، تركيا والسعودية، فقدت مكانتها الإقليمية وانحصر تأثيرها وانشغلت بداخلها المتقلب سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وأصبحت هذه الدول كلن منها على حده غير قادرة على ان تكون قوه اقليمية مؤثره وموازية لقوه اقليمية صاعده مثل ايران.
إن القوه الاقليمية الوحيدة التي تتألق في الشرق الوسط المتجدد هي ايران. هي قوه عسكرية دبلوماسية تشابكية بامتياز، اضافة الى انها قوه اقتصادية وعلمية تتفوق على الكل بالشرق.
خامساً: اللاعب الدولي الأساسي بالشرق الاوسط تغير منذ دخول روسيا الى جانب سوريا في حربها على الارهاب. روسيا اليوم وبعد عودة الاساطيل الحربية الامريكية من السواحل السورية سنة 2013 دون ان تبدأ حرباً على سوريا كما توقع وتمنى العديد, اصبحت القوة المؤثرة الأساسية في سياسات دول الشرق الاوسط جميعاً وليس فقط سياسات حلفاءها.
اليوم نستطيع ان نرى ليس فقط عودة اللاعب الروسي الى الحلبة الشرق أوسطيه بزخم وقوه بل نرى ايضاً تراجع ملحوظ للاعب الامريكي واللاعب الأوروبي. قوة دوليه جديدة هي روسيا وقوه اقليمية جديدة هي ايران بدعم صيني مباشر ومباركة هندية وبرازيلية وجنوب افريقية وتقبل اوروبي لهذا الواقع الجديد ولو على مضض. كل هذا يجعلنا نقول اننا أصبحنا في قلب شرق اوسط متجدد ومعالمه تزداد يوماً بعد يوم وضوحاً.
سادساً: . منذ دخول ايران الحرب السورية الى جانب القيادة والشعب السوريين وانخراط روسيا الكامل بمحاربة الارهاب وحماية وحدة سوريا أرضاً وشعبا والتنسيق السوري العراقي العسكري لمحاربة الارهاب ووقوف حزب الله الى جانب سوريا في حربها ضد التقسيم وانحياز الأكثرية الساحقة من الشعوب العربية لوحدة سوريا وحماية استقلالها وكيانها من الهيمنة واصطفاف بعض الانظم العربية الى جانب حرية الشعب السوري بتقرير مصيره وانتخاب قيادته السياسية من جهة، ومن جهة ثانيه الحرب العدوانية السعودية على اليمن بدعم أمريكي ومشاركة إسرائيلية وعربية في هذا العدوان الغاشم وتدخل السعودية في الشؤون البحرانية لقمع الثورة السلمية التي دخلت عامها السادس، اصبحنا امام شرق اوسط متجدد به حلفان لا ثالث لهما: حلف المقاومة وحماية سيادة الشعوب وأراضيها وحلف العدوان والهيمنة.
في هذا الشرق الاوسط المتجدد لا مكان للحيادية. اما ان تكون مع المقاومة والسيادة وحرية الشعوب بتقرير مصيرها. وأما ان تصطف الى جانب العدوان والهيمنة.
ضمن هذه المعادلة اقسم دول الشرق الاوسط كما يلي:
أولاً: حلف المقاومة: سوريا، ايران، العراق واليمن الى جانبهم حزب الله وبدعم ومباركة واضحتين من الجزائر وتونس ومصر ( رغم ان مصر بسبب وضعها الاقتصادي والسياسي الداخلي المضربين لم تحسم امرها نهائياً بعد).
ثانياً: حلف العدوان والهيمنة: السعودية، الإمارات، قطر، تركيا، اسرائيل والأردن.
ثالثاً: حلف المتأرجحين: هؤلاء لم يحسموا امرهم نهائياً لأسباب مختلفة لا مكان هنا للإسهاب في تحليلها. هذا الحلف يضم كل من المغرب، لبنان وفلسطين. المغرب والقيادة الرسمية الفلسطينية اصطفوا خلف السعودية بعدوانها على اليمن وتصريحاتهم حول سوريا صحيحة وتكون تكون معدومة. للبنان خصوصيته؛ الرئيس عون وعدد من القوى السياسية يقف بوضوح الى جانب حلف المقاومة لكن رئيس الوزراء سعد الحريري وتياره مدعوم من تيار جنبلاط ما زال رهينة ارتباطاته المالية والسياسية بالخليج وهو يكن العداء للقيادة السورية ويضرب بسيف اسياده الخليجيين. وعودة بنا الى عنوان المقالة نقول ان فلسطين تتأرج بين موقف القيادة المهيمنة والمرتبطة بالمال الغربي والسعودي وبين موقف اكثرية الشعب التي تعارض العدوان على اليمن وتعارض الحرب على سوريا وتقف بوضوح الى جانب حلف المقاومة.
إن موقف الشعب يتم دعمه بخجل وتكتم جزئي من القوى السياسية اليسارية الديمقراطية. حماس وبعد الانقلاب العسكري بغزه وتكاتفها مع الاخوان بما يسمى بالربيع العربي ووضع بيضاتها في السلة التركية - القطرية اصبحت بعيدة عن ان تكون سيدة قرارها بالشأن الشرق أوسطي. هي لا تملك قرار مستقلاً بالمسألة الفلسطينية الداخلية. فيكف بها ان تملك قراراً اكبر يتعلق بالإقليم ومصيره؟.
إن حلف المقاومة يؤكد يوماً بعد يوم ان بوصلته فلسطين وتحرير فلسطين وحلف العدوان والهيمنة يعمل باجتهاد لتطبيع علاقاته مع المحتل الصهيوني.
هذه هي المعادلة التي تخص القضية الفلسطينية.
نحن على يقين ان سياسة الدول ترسمها المصالح وتحدد مجراها زيادة النفوذ. لكن ما هي مصلحة القيادة الفلسطينية من وقوفها الى جانب الحلف الذي يعمل جاهداً للقضاء على القضية الفلسطينية والالتفاف على رغبة شعب فلسطين في تحرير ارضه من الاحتلال الصهيوني بتطبيعها وتنسيقها الاقتصادي والعلمي والعسكري مع المحتل الصهيوني.
هذه الحقائق لم تعد تحليل سياسي بل هي واقع موجود: خبراء اسرائليون وطيارون اسرائيليون يشاركون الى جانب السعودية في عدوانها على شعب اليمن، وقبل يومين قامت الإمارات وإسرائيل بمناورات جوية مشتركة والقطريون ودوّل خليجية اخرى تتبادل التجارة بالعلن مع اسرائيل، رغم ان بشاعة احتلالهم تزداد يوم بعد يوم في فلسطين.
السيناريو الصهيوني الجديد لم يعد يستند الى ان بوابة التطبيع مع العرب هي فلسطين. بل هو يستند الى ان الإجهاض على قضية فلسطين وإجبار القيادة الفلسطينية بالقبول بالفتات يأتي عبر تسارع التطبيع مع حلف العدوان والهيمنة التي اصبحت هي عموده الفقري.
إن التباكي الفلسطيني على الاخوة الخليجية الاسرائيلية المتزايدة لا يجدي. إن المطلوب موقف واضح من الاصطفافات في الشرق الاوسط المتجدد لكي ننقذ ما يمكن بعد انقاذه.
إن شعب فلسطين وقيادته امام مفصل تاريخ مهم، يشابه الموقف الذي كان بعد حرب 1973. والقضية الفلسطينية بحاجة الى برنامج سياسي جديد يأخذ بعين الاعتبار التغيرات الجمة التي لحقت بالإقليم والتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي عصفت بفلسطين المحتلة في ربع القرن الماضي. اضافة الى برنامج سياسي جديد باجندة سياسية جديدة واصطفاف نوعي جديد، والقضية الفلسطينية بحاجة الى برنامج نضالي جديد يحتكم للواقع الجيوسياسي الجديد في فلسطين المحتلة.
إن العنجهية العسكرية الاستعراضية التي استعملت "كافيون" للجماهير لم تعد تكفي ويجب استبدالها بوسائل نضال مجدية للشعب الفلسطيني وموجعة للاحتلال وكيانه.
ونهايةً انا أشك في ان هذه النقلة ممكنة تحت ضَل قيادات الشعب الفلسطيني الحالية. وهنا لا استثني أحداً لا حزب حاكم ولا معارضة اسمية ولا منفصلين اخوانيين.
الكاتب والمحلل والباحث السياسي رائف حسين- المانيا