في الفيلم المدهش للمخرج الفلسطيني رائد أنضوني "اصطياد الأشباح"، الذي يعيد فيه بناء سجن "المسكوبية"، مع سجناء سابقين، تتوالى المشاهد التي تروي التعذيب والقمع وامتهان الكرامة الانسانية، كي تبني مداخل متعددة للاحتفاء بالحياة. وبهذا المعنى تتحول التجربة الفلسطينية إلى مدخل لقراءة التجربة الانسانية. فهذا السجن قد يكون في صيدنايا في سوريا، كما قد يكون في مغرب سنوات الرصاص، أو في نقرة السلمان في العراق… انه ليس فيلما عن الضحايا الذين يعيشون صمت الألم، انه فيلم عن الناجين، الذين تعلموا فن البقاء وسط الخراب والموت.
يستحق هذا الفيلم أن يُشاهَد أكثر من مرة، كي نتعلم منه فن البقاء، وحيل اجتراح معجزة النجاة في قلب الخطر، حيث يواجه الناجون اصرار المحتل والمستبد على تحويلهم إلى ضحايا لا تمتلك القدرة على التعبير.
عنوان الفيلم حمّال أوجه، من هو الصيّاد هنا؟ هل هو الإسرائيلي الذي يصطاد ضحاياه كي يحولهم إلى اشباح، أم هي الاشباح التي تصطاد لحظات الحياة من لجة الموت، فتحوّل الجلاد إلى شبح بلا ملامح، يجري تغييبه خلف السخرية منه ومن قوته، لأن المساجين يمتلكون قوة الحق التي تتفوق أخلاقياً على كل قوة أخرى.
غير أن لكلمة أشباح دلالةً أخرى لأنها تحيل إلى فعلي الشَبْح والتشبيح، وإذا كان فعل التشبيح اكتسب شهرته في سوريا، من خلال قيام "شبّيحة" النظام بالقتل والنهب والتعفيش، فإن تقنية الشّبْح، كأداة تعذيب في السجون هي تقنية مشتركة تمارسها إسرائيل والأنظمة الاستبدادية العربية. فالشَبْح الذي يرد على ألسنة السجناء في هذا الفيلم هو أداة تعذيب تستخدم بشكل شبه دائم في السجون الإسرائيلية، إلى جانب تقنيات أخرى متعددة.
وفي الشَبْح يجري ربط المعتقل من يديه إلى ظهره وهو جالس على كرسي، ثم يقوم الجلّاد بسحب الكرسي من تحته فيسقط السجين على عموده الفقري المتقوّس، ما يسبب آلاماً حادة، وأعطاباً دائمة.
هكذا يقوم السجّان- الشَبَح بشَبْح المعتقلين، بهدف تحويلهم إلى أشباح غارقة في الألم، تستسلم أمام الضغط الجسدي والنفسي. السجّان- الشبح يعود، أو هكذا يعتقد، إلى حياته الطبيعية العادية لحظة خروجه من عمله في السجن، أما السجين فعليه أن يتحول إلى شبح مسلوب الإرادة بشكل دائم.
يأخذنا فيلم أنضوني في رحلة مقاومة الشَبْح والتشبيح عبر التمسك بالحياة. فالسجناء يقاومون بالرسم والشعر والحب والسخرية. هناك مرارات لا تحصى بالطبع، كما أن هناك توترات دائمة بين الممثلين-الشهود الذين يروون تجاربهم القاسية، (سوف تقود هذه التوترات إلى اتهام المخرج بالتسلط، وتنتهي عبر اخضاعه للتعذيب كغيره من السجناء)، هذه المرارات والتوترات تجد معناها في رفض السجناء الركون إلى فكرة الضحية، عبر إصرارهم على التمسك بحقهم في ان تكون الحياة حقاً لهم.
كنت أتأمل في حكاية هذا الفيلم وأنا أتابع وقائع الحملة التي تشنها السلطات الإسرائيلية ضد حركة المقاطعة ( B.D.S.) ممثلة بأحد مؤسسيها وقادتها عمر البرغوثي. فلقد نجح هذا المناضل الفلسطيني مع رفيقاته ورفاقه في ابداع شكل نضالي جديد لمقاومة الاحتلال في مرحلة التراجع السياسي الذي تمرّ به القضية الفلسطينية.
فجأة تحولت حركة المقاطعة إلى كرة ثلج كبرى تمتلك نفوذاً وتأثيراً كبيرين في العالم بأسره وخصوصاً في الغرب. هذه الحركة الفلسطينية التي استلهمت التجربة النضالية في جنوب افريقيا، تتعامل معها سلطات الاحتلال الإسرائيلية بصفتها عدواً خطيراً يجب القضاء عليه.
بدأت الحرب ضد حركة المقاطعة عبر تخصيص أموال لتمويل سياسة اعلامية- اعلانية تهدف إلى تبييض صورة إسرائيل، ثم انتقلت إلى الحيز القانوني عبر سن قانون في الكنيست ضد المقاطعة، وعبر اعتبار الحركة خطراً استراتيجياً على إسرائيل، وصولاً إلى اعلان وزير المخابرات الإسرائيلي يسرائيل كاتس عن نية إسرائيل القيام بتصفية قادة حركة المقاطعة، وإلى قيام المخابرات الإسرائيلية بإعداد قائمة بأسماء الناشطين الإسرائيليين في صفوف المقاطعة، ووصل الأمر إلى ذروته عبر سن قانون يمنع نشطاء حركة المقاطعة العالميين من دخول إسرائيل.
يخضع عمر البرغوثي، الذي يحمل إقامة دائمة في إسرائيل، لتحقيق دائم يشبه الاعتقال بتهمة عدم التصريح عن أموال في رام الله والولايات المتحدة، وهي حجة من أجل منع البرغوثي من السفر إلى الولايات المتحدة لنيل جائزة حقوق الانسان، كما أنها أداة لترهيب مناضلي حركة المقاطعة.
من الواضح أن الهدف الإسرائيلي منذ بداية النكبة سنة 1948، هو الغاء الوجود الفلسطيني، عبر شَبْح الفلسطينيات والفلسطينيين، بهدف محو وجودهم وجعلهم مجرد أشباح. التكتيكات اختلفت من غولدا مائير التي أعلنت أن لا وجود لشيء اسمه الشعب الفلسطيني، إلى التيار اليميني الذي يبحث عن مبررات دينية تسمح له بدفن فلسطين في دماء ابنائها. وحين يعلو صوت المقاومة سواء أكانت شعبية سلمية أو مسلحة، وسواء أكانت في اراضي ال48 او في الضفة والقدس وغزة، فان الرد الإسرائيلي الوحيد هو العنف الذي يبحث عن مبررات أخلاقية لم تعد تنطلي على أحد، لذا يجد نفسه جزءاً من الموجة العنصرية الفاشية التي تجتاح الغرب، مع وصول ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة.
اليمين الإسرائيلي يمزق كل أقنعة الدولة العبرية التي صارت اليوم، بشكل معلن وواضح، دولة فصل عنصري.
الحملة ضد عمر البرغوثي ليست مستغربة، فإسرائيل التي نجح الفلسطينيون في كشف عنصريتها وزيفها الأخلاقي، لأنهم نجحوا في صراع البقاء، واستعادوا أصواتهم بصفتهم ناجين وليس ضحايا فقط، تتمرغ في القمع والجريمة، وتتبنى خطاب القوة العارية، ولغة عنصرية مكشوفة.
في هذه المعركة الأخلاقية الكبرى التي تترافق مع نضال يومي لا يتوقف، لعب عمر البرغوثي ورفيقاته ورفاقه في حركة المقاطعة دوراً مركزياً، يتسع باستمرار، ويشكل اليوم تحدياً لا تستطيع إسرائيل مواجهته بغير القمع.
هذه المعركة ليست معركة عمر البرغوثي ورفاقه وحدهم، إنها معركتنا جميعاً، إنها معركة الانتصار على الشّبْح والقمع وإخراس الضمائر.
تحية إلى عمر البرغوثي.