ما من عمل سياسي نجح إلا إذا أنتجه معمل سري، وكل عمل أنتجته المحافل والقرارات هو كالبضاعة المنتقاة التي تعرض في الفترينة لاستقطاب المشترين.
أنور السادات، رحمه الله، قبل أن يبرم اتفاقيات كامب ديفيد، التي غيرت مجرى التاريخ في الشرق الأوسط، أسس وبيغن معملاً سرياً أنتج اتفاقاً صمد ما يزيد على ثلث قرن، والفلسطينيون الذين أدوا عملاً سياسياً علنياً في مدريد وواشنطن، لم يجدوا مفراً من تجهيز غرفة سرية في أوسلو، أدّت إلى تحقيق اختراق للبديهيات والمسلمات والحلول، فأنتجت اعترافاً متبادلاً كان محرماً في المجالس والمؤتمرات، وإعلان مبادئ لو عرض أثناء صياغته على أي محفل أو مجلس أو هيئة لأحبط وألغي بالإجماع.
هذه حقيقة لم يفعلها المصريون والفلسطينيون وحدهم كاستثناء عن كل ما يفعل في القضايا الكبرى، فالعمل العلني يؤدي إلى صيغ تخاطب الغرائز والأماني، وما يحب أن يسمعه الناس، أما العمل السري فيتعاطى مع الحقائق كما هي بأرقامها والممكن منها، وحين يتم الاتفاق لا ضرورة لفاترينة تعرض البضائع فيها، بل إلى سوق تباع فيه مباشرة، مع أول يوم يبدأ فيه التطبيق، وهذه بديهية راودتني وأنا أتابع مجريات القمة العربية الثامنة والعشرين، ولعلني شاركت في بعض من القمم، ففي التحضير الأخير لها عبر اجتماع وزراء الخارجية، يُطلب من صاحب كل قضية أن يصوغ الفقرة المتعلقة به، وفق ما يلائمه ويخدم خطابه ومسعاه، وفي قمم كثيرة لم تحدث ولو نقطة أو فاصلة مما يكتب أصحاب القضايا، فأهل القضايا أدرى بما يلائمهم، فيخرج الجميع سعداء بالإنجاز ولا بأس من أن يقولوا لجمهورهم الطيب، إنهم قاتلوا بصعوبة حتى أدركوا هذه الصيغة، وإن وفدهم كان مثل كاسحة الألغام يفتت الكمائن والأشراك حتى وصل إلى مبتغاه.
المطلعون وحتى غير المطلعين يستطيعون استنتاج القرارات العلنية للقمة حتى لو لم يقرأوا صياغة وزراء الخارجية، وهذا أمر يراه صُنّاعه مفيداً أن يصدر لأمة وقفت طويلاً على حافة اليأس، وتحتاج ولو إلى خشبة تحول دون الغرق في البحر الهائج، ولأننا كرأي عام عربي نتعامل بالقطعة وباليوم وبالساعة، ولأننا كذلك أصحاب ذاكرة منحها الله نعمة النسيان السريع، فسوف نستقبل قرارات القمة بفعل سطوة الإعلام، دون أن نتعب أنفسنا في محاكمة القرارات وما يوضع لها من آليات للتطبيق.
تختلف القمم العربية بعضها عن البعض الآخر بأمرين؛ المكان المتغير بين القمة والأخرى، والزمان المتغير بوتائر متعددة تارة بطيئة وغالباً سريعة، أما القرارات فيطبق منها ما يتصل بمعاقبة نظام أو دولة على الصعيد السياسي، ويطبق على الصعيد المالي ولكن بنسب متفاوتة.
الموضوع الجوهري الذي اقترب منه العرب لفترة وجيزة، وأُطفئ النور حوله، هو توليد قوة عسكرية موحدة يمكن استخدامها كتذكرة دخول إلى منتديات الأقوياء، وفي زمننا هذا زمن الحرب العالمية المشتعلة على أرضنا والآكلة لشعوبنا، فمقاعدنا بكل أسف توضع في الصف الثاني، مع أن طبقنا هو الموضوع على المائدة، وهذا نوع من الدراما التي يفترض أنها بكل المقاييس غير منطقية، فما أصعب أن يكون صاحب المائدة ضيفاً على مائدة في عقر داره.
قد لا نعوّل على قمة لتغيير هذه المعادلة فعلاً، فهل يمكن أن نعوّل على غرفة سرية تقام من أجل هذا الغرض وتنضج الخلاصات على نار هادئة؟
المحزن في الأمر أن الوضع الدولي وما حدث فيه من فراغات وتراجعات لقدرات وسياسات أصحاب النفوذ المحسوم تاريخياً، يبدو مواتياً لولادة صيغة عربية تؤمن قوة يحسب حسابها في زمن تقاسم النفوذ بالنار والصفقات والتسويات.
لقد جُمع الشتات على حافة البحر الميت، ولا أدهى وأمر وأقسى من أن تهب الرياح المواتية بينما أشرعتنا مربوطة بحبال قديمة نسجتها اعتبارات وحسابات عفّى عليها الزمن.
نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني