صفحات مشرقة ممكن لمسناها في دعوة حزب الوطنيين الديمقراطيين للمؤتمر الثامن للقاء اليساري العربي بحضور احزاب عالمية ، رغم حالة الانكفاء والتهميش لدى بعض الاحزاب اليسارية ، ولهذا لا بدّ أيضاً النظر إلى الموضوع من منظور تاريخي جدلي يدقق ويتفحّص الصيرورة التاريخية لقوى اليسار العربي ، وأهم المفاصل والمحطات التي مرّ بها ارتباطاً بالظروف الموضوعية والذاتية، الداخلية والخارجية.
إن نظرة تقويمية للمؤتمر الثامن لليسار العربي في تونس ، اعتبر انه من خلال استماعي للكلمات التي القيت كانت كلمة الجبهة الشعبية التونسية وكلمة حزب الوطنيين الديمقراطية تشكل نقطة تحول في المؤتمر التي حمل عنوان مائة عام من المقاومة خاصة في ظل
المرحلة المتردية التي تعيشها المنطقة العربية الآن ، بعد احتلال العراق وتفاقم الأوضاع في فلسطين من خلال العدوان المتواصل الذي يستهدف الارض والانسان، وتصاعد الهجمة الامبريالية من خلال دعم القوى الارهابية والظلامية من اجل تفتيت الدول العربية بهدف أعادت المنطقة إلى مرحلة سايكس بيكو .
إن شمولية الموضوع ، وتعقيداته تحتاج بالتأكيد إلى دراسات تحليلية معمقة في الفكر السياسي اليساري العربي وتجاربه ، للإجابة على هذه الأسئلة المتشعّبة ، إذ من الصعوبة بمكان الإحاطة بهذا الموضوع الشائك حول دور اليسار العربي من خلال مقالة كهذه ، ولكن على مستوى القضايا العملية التي طرحها المؤتمر ، والمهمات والبرامج التي انبثقت عنه ، كي تفضي إلى وسائل حلّها وتجاوزها ، وأعني هنا مسائل القومية : الاستقلال , التجزئة ، التحرر ، الوحدة ، التنمية وأفق التطور الاقتصادي, والاجتماعي العربي ، والمهمات الأخرى التي يحددها الواقع العربي بتعييناته ، على اعتبار أننا لا زلنا في مرحلة التحرر الوطني الديموقراطي وخاصة في فلسطين ، حيث يفرض علينا واقع الاحتلال مهمات إضافية أساسية تتعلق بمواجهة الاحتلال ودحره ، مثل هذه المهام تتطلب أوسع مشاركة شعبية ، من قِبل جميع القوى الاجتماعية والطبقية الفاعلة ، التي عليها أن تنتظم في أطر الجبهة العربية الشاملة ، هي الصيغة الأكثر فعالية لإنجاز مهام الثورة الوطنية الديموقراطية ، التي يندرج ضمنها مواجهة الاحتلال ، والتحرر من التبعية ومحاربة التجزئة ، والوحدة, وإنجاز التنمية الاقتصادية والاجتماعية, وكل هذا يجب أن يرتبط بفهم عميق لمسألة الديموقراطية التي تتجاوز مسألة الحريات السياسية فحسب ، إلى مسألة تحصين البلدان العربية ضد التهديدات الخارجية المحتملة من خلال الإصلاح الداخلي الذي يستدعي أوسع صيغ التحالف الوطني العريض ، والمشاركة الشعبية في القرار السياسي, والاقتصادي, والاجتماعي الفاعل ، الذي يعني ضمناً إعادة المجتمع إلى دائرة الفعل ، بعد أن غُيّب طويلاً.
وامام كل ذلك السؤال الذي يطرح نفسه دوماً في هذا السياق ، لماذا لم يصبح اليسار العربي قوة تغيير حقيقية ،لقد سال الكثير من الحبر ، لذلك نرى إنَّ البديل الحقيقي من اجل تطوير القوى والاحزاب اليسارية والديمقراطية هو الديموقراطية الاشتراكية التي تعني ضمناً ليس
الديموقراطية السياسية فحسب ، بل الديموقراطية بمفهومها الأوسع والأشمل, وبأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، ولكن بعيدا عن الديموقراطية الغربية أو الليبرالية الجديدة ، التي ستظل خادعة طالما أنها لم تتحْ حيزاً واسعاً للاعتراف بالمنتجين كفاعلين سياسيين على مستوى الرقابة والقرار ، وبالتالي سوف تظل ديمقراطيتها ناقصة وشكلية.
ومن هنا نقول يجب إعادة النظر في الكثير من القضايا وتحليلها تحليلاً معمقاً للوصول إلى وعي مطابق لإشكاليات الواقع يفرز على المستوى النظري برامج للخروج من هذه الأزمة المستعصية ، وعلى المستوى العملي التكتيك الملائم لإنجاز مهام تلك البرامج, وهذا يقتضي من اليسار العربي والفلسطيني مراجعة كاملة لكل المناهج والبرامج والمهمات المطروحة علينا, للخروج بفهم جديد يعيدنا إلى دائرة الفعل المؤثر في حركة الواقع .. على مستوى الاستراتيجيا والتكتيك الصحيح الملائم لظروف المرحلة الراهنة، مما يستدعي فتح أوسع حوار بين أجنحة اليسار العربي ، لإعادة تحليل وتركيب كافة القضايا التي تواجه واقعنا العربي ، من أجل نهوض القوى والاحزاب اليسارية والديمقراطية العربية مجدداً ... ومن جهة أخرى تقتضي الأزمة المستعصية في الواقع العربي عموماً فتح باب الحوار أيضاً بين مختلف التيارات والحركات الفاعلة على اختلاف مشاربها الفكرية والأيديولوجية : الماركسية, والقومية, والإسلامية المتنورة ، إذ رغم الاختلاف على المستوى الإيديولوجي مع التيار الإسلامي فنحن نميّز بين التيار الإسلامي المقاوم للمشروع الإمبريالي الصهيوني, وبين التيار الظلامي الاستئصالي التكفيري الذي يرفض الحوار ويعتبر نفسه البديل المطلق لكافة التيارات الأخرى الفاعلة في الواقع العربي.
لا شك ان مؤتمر اليسار العربي في تونس شقّ طريقه النضالي ، وهذا يتطلب العمل على تطوير اللقاء اليساري العربي حتى يبقى في ميدانُ اليسار الثوريّ ف تجربة الانتفاضة التونسيّة والثورة المصريّة تقدّم له أفضل حقل لاختبار فاعليّته ، من خلال التجديد والتغيير، هو أحد سمات الجدل ولهذا فلا بد من إفساح المجال للقيادات الشابة لتأخذ دورها الحقيقي في المعارك المختلفة، وأية محاولة لتعطيل تطور الشباب يشكل رؤية أصولية تتنافي مع قوانين الجدل والتطور ، وعليها أن تفتح أبوابا إبداعية، وتفسح المجال لها للعمل والتعلم ففي المعارك يجري صقل القادة، وفي الكفاح يتبلور الوعي السياسي والنقابي، وعلى القادة زج الشباب في كافة المعارك فمدرسة الحياة هي التي تصلب عودهم ، وتنمي مداركهم ، وتفلوز طاقاتهم، وتصقل إبداعاتهم، وللمرأة دور مهم وفي المرتبة الأولى من الاهتمام لدى الأحزاب والقوى اليسارية والتقدمية والديمقراطية، وتوفير لها كل الإمكانات من أجل تعزيز دورها السياسي والنقابي والاجتماعي، ورفع مستوى وعيها السياسي والفكري، وتطوير قدراتها، وإفساح المجال للقيادات الشابة أن تأخذ دورها في قيادة المجتمع، وفي أعلى الهيئات القيادية، وهذا يتطلب من المرأة أن تساعد نفسها أيضا، تعتمد على نفسها في تطوير وعيها ورفع مستواها الكفاحي، ولا تتردد في الدفاع عن حقوقها، ومواجهة الاضطهاد القومي والطبقي الذي تتعرض له المرأة العربية.
لذلك نرى ان هذا الصراع الدامي والمضطرب والمتفجر، والمتنوع تقود الطبقات والفئات الاجتماعية المختلفة قوى واحزاب تقود نضال الشعب الكادح ضد مضطهديه ومستغليه.
وفي ظل هذا الواقع الذي تعيشه شعوب العالم العربي وصراعاته المتعددة الأشكال والأساليب، والهجمات الشرسة على شعوب المنطقة ، نسأل هل لدي اليساريون والديمقراطيون إمكانية أن يكونوا فاعلين ومؤثرين في هذا العالم، خصوصا أن شعبنا الفلسطيني يعيش مرحلة التحرر والاستقلال الوطني، يناضل من أجل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني عن كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة ، ومن أجل إقامة دولته الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس، بلا مستوطنين ولا مستوطنات، وضمان حق اللاجئين في العودة لديارهم التي هجروا منها طبقا للقرار 194.
اذن يجب ان نؤكد في ظل الواقع الانقسامي الذي يعيشه الشعب الفلسطيني العمل على تشكيل أوسع تحالف وطني وقيام ائتلاف ديمقراطي واسع كمكون رئيس من مكونات التحالف الوطني الذي جسدته منظمة التحرير الفلسطينية، والاتفاق على إستراتيجية سياسية وكفاحية توحد الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده على سطح الأرض، ورفض تسليم قيادة الشعب الفلسطيني لأطراف عربية أو إقليمية، فأصحاب القضية هم أولى بحمايتها وصونها والدفاع عنها، برغم بعدها العربي لها، فلم تعد بعض الأنظمة العربية أمينة على حقوق الشعب الفلسطيني بعد قرارها الأخير،وهي التي تطبع علاقاتها علنا وسرا مع العدو الحقيقي لشعوب المنطقة ، وتشارك في الحفاظ على أمن ووجود إسرائيل.
إن الحذاء الذي نطق سابقا على رأس جورج بوش الابن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية سابقا، ينطق الآن على رؤوس دعاة التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، فالجماهير العربية لا زالت تحتضن القضية الفلسطينية ولن تتخلى عنها برغم الصراعات الداخلية في بلدانها، وبالتأكيد فان الأحذية المهترئة والممزقة أحذية الجماهير المسحوقة والفقيرة ستتطاير على رؤوس دعاة التبعية والتخلف والفكر الظلامي.
ان التاريخ النضالي للقوى اليسارية والديمقراطية الفلسطينية هو تاريخ نضالي مجيد منذ ما يقارب القرن من الزمان، فجبهة التحرير الفلسطينية والشعبية والديمقراطية وحزب الشعب وجبهة النضال والعديد من القوى والاحزاب تشكل موقعا مهما في تعزيز دورها في النضال الوطني والطبقي، باعتبار ان هذه الفصائل والقوى والاحزاب لها هوية فكرية وطبقية، يعمل جميع أعضائها على تحقيق برامجها السياسية والديمقراطية بروح جماعية وبوحدة الإرادة والعمل، في الدفاع عن مصالح الطبقات والفئات المسحوقة والمهشمة في مقدمتها العمال والفلاحين والمرأة والشبيبة والمهنيين والمناضلين، ويناضل من أجل وحدة عمل قوى اليسار الفلسطيني، من هنا عليهم واجب العمل على توحيد جهودهم ضمن ائتلاف موحد حتى انجاز حقوق الشعب الفلسطيني .
ختاما :لا بد من القول ، ان موضوع القوى اليسارية والديمقراطية يجب أن يشغلنا، ومؤتمر اليسار العربي الثامن شكل حالة نهوض في تعزيز القيم التقدمية والديمقراطيةمن خلال الكلمات التي القيت من قبل القوى و الأحزاب المشاركة والتي اعطت نقطة تحول للحفاظ على تاريخها وشهدائها، وكيفية مواجهة النظم الاستبدادية والديكتاتورية والإسلام السياسي والأفكار الظلامية.
بقلم / عباس الجمعة
كاتب سياسي