فيما بدا أنها أقرب ما تكون إلى محاولة من نفتالي بينت زعيم البيت اليهودي إلى تقديم أوراق اعتماد مبكرة للمجتمع الإسرائيلي المتطرف وجموع المستوطنين اليمينيين، وغلاة رجال الدين المتشددين، للقبول به زعيماً لهم وقائداً جديداً لمسيرتهم، ومنافساً حقيقياً لبنيامين نتنياهو على رئاسة الحكومة الإسرائيلية القادمة، في حال قرر أن يحل الكنيست ويخوض انتخاباتٍ برلمانية مبكرة، في محاولة منه للهروب إلى الأمام، عله يتمكن من التخلص من المشاكل التي تواجهه، ويفلت من شبح التحقيق الذي يلاحقه، والفضائح التي تتربص به، والشرطة التي تجمع المعلومات عنه وعن زوجته، والبث العام الذي ينشر كل شئٍ يتعلق به وبالصفقات التي يعقدها لتخفيف الأعباء عنه، وقد شعر بينت بعد استطلاعات الرأي المختلفة أنه أوفر حظاً من غيره لوراثة نتنياهو في الحزب والحكومة.
فقد أطلق بينت عدداً من التصريحات السياسية التي أراد منها أن تكون فاقعة ولامعة، ومثيرة وصاخبة، لفت بها الأنظار وأثار حولها الكثير من الغبار السياسي، عله يتمكن من خلالها من جذب الانتباه إليه، وتجيير أصوات المتطرفين لصالحه في حال جرت انتخاباتٌ مبكرةٌ، وقد جاءت تصريحاته في شكلها مخالفةً لسياسة حكومة العدو، ومعارضةً لأداء رئيسها بنيامين نتنياهو ومنتقدةً له، متهماً إياه بالتقصير حيناً وبخيانة أمانة الشعب اليهودي حيناً آخر، وفي تصريحاتٍ أخرى يتهمه بالجبن والخوف، وبأنه ينصاع للضغوط ويستجيب للتهديدات، ويخضع لغير مصالح الشعب اليهودي، أو أنه مترددٌ غير حازمٍ، ومرتعشٌ غير واثقٍ، يرتكب الكثير من الأخطاء بامتناعه عن إصدار القرارات الصائبة، أو يتأخر عنها فيفقدها قيمتها ويفرغها من مضمونها، إذ تصدر متأخرة وبعد فوات الأوان.
وعلى الرغم من أن نتنياهو قد سمح لأول مرةٍ منذ عشرين عاماً ببناء أول مستوطنةٍ على أراضٍ فلسطينية تعود ملكيتها لمواطنين فلسطينيين، وليست مصنفةً أراضي دولةٍ، وذلك ليعوض المستوطنين عن مستوطنة عمون العشوائية، التي أمرت المحكمة العليا بتفكيكها، إلا أن نفتالي بينت دان نتنياهو على سياسته السابقة، التي امتنع فيها عن بناء المزيد من المستوطنات، وخضع للضغوط الدولية والتهديدات الفلسطينية، ولم يقم ببناء مستوطناتٍ جديدةٍ، في الوقت الذي يحتاج فيه المستوطنون إلى مستوطناتٍ أخرى، تستجيب لزيادتهم العددية، وازديادهم الطبيعي، رغم وعوده السابقة لهم بتلبية رغباتهم، والاستجابة إلى شروطهم، وتمكينهم من بناء المزيد من المستوطنات لهم، بما يفي بحاجتهم ويلبي رغباتهم.
ووصف استجابة نتنياهو لطلب الإدارة الأمريكية بالحد من الأعمال الاستيطانية، ووقف بناء المزيد من المستوطنات، بالخطأ التاريخي الذي لا يغفر، بل لا يحق لرئيس الحكومة أن يوافق على هذا الطلب، وإن كان لا بد منه، فإن عليه العودة إلى الشعب، ليستفتيه على قراره، ويأخذ رأيه فيما يمس مصيره ومستقبله، وواصل بينت انتقاداته السياسية التي بدت بعضها وكأنها دعوة للعصيان، إلا أن حزب الليكود علق عليه قائلاً "بأن بينت آخر من يحق له الوعظ والإرشاد".
وينتقد بينت بشدة رئيس حكومته نتنياهو على مواقفه المتكررة، وسياسته المرنة تجاه حل الدولتين، ومسايرته غير الحكيمة للسياسات الدولية، ويرى أنه أقرب إلى الموافقة على هذا الطرح، الذي يضر بمستقبل إسرائيل وشعبها، وينهي حلم الأجيال اليهودية بالعودة إلى ممالكهم القديمة في يهودا والسامرة، في حين أنه كان بإمكانه وما زال، أن يمنح الفلسطينيين في الضفة الغربية "يهودا والسامرة"، حكماً ذاتياً محدوداً، على أراضٍ محصورةٍ وضمن صلاحياتٍ ضيقة، يديرون فيها شؤونهم المدنية فقط، ولا يكون لهم أي شكل من أشكال السيادة، بل يخضعون لإدارةٍ إسرائيليةٍ مباشرةٍ تتابع شؤونهم، وتسوي أمورهم، ويرى بينت أن الفرصة متاحة "لدولة إسرائيل" لأن تنفذ هذا المشروع، ولكن نتنياهو يتردد ويتأخر كعادته، مما يجعل العودة إلى هذا الطرح أمراً صعباً.
لا تتوقف حملة بينت الانتخابية التي يضارب فيها بمواقفه المتطرفة على مواقف رئيس الحكومة الإسرائيلية، بل امتدت انتقاداته لتطال حزب الليكود وقيادته، الذي يتولى رئاسة الحكومة عملياً منذ أكثر من عشرين عاماً، واصفاً إياه بالتفريط والاستهانة، ويرى أن سياسة الحزب هي التي أبقت على أشعار وأدبيات محمود درويش في كتب التعليم في المدارس الإسرائيلية، رغم علمهم أن أشعاره خطرةٌ وكلماته محرضةٌ، ودعا بصفته وزير التربية والتعليم إلى تنقية المناهج التعليمية الإسرائيلية، وتخليصها من أشعار درويش التي تدعو إلى الدولة الفلسطينية على حساب دولة إسرائيل اليهودية.
وانتقد بينت زميله في الحكومة وشبيهه في التطرف، إذ اعتبر أن وزير حرب العدو أفيغودور ليبرمان غير حازمٍ مع المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وأن سياسته في الجيش تنعكس سلباً على حياة المستوطنين في غلاف القطاع، الذين يستشعرون الخطر يزحف تحت أقدامهم، ويدخل داخل بيوتهم، ودعا ليبرمان إلى المبادرة بشن حربٍ صاعقةٍ على قطاع غزة، يهدم فيها أنفاقهم ويقتل قادتهم، ويعيد الأمن إلى جنوب البلاد، فما كان من ليبرمان إلا أن علق عليه قائلاً "إن بينت يريد الوصول إلى رئاسة الحكومة بقتل المئات من جنود الجيش".
ويعيب بينت على الحكومة الإسرائيلية ووزير حربها تأخرها في تنفيذ أوامر الهدم بحق منفذي العمليات العسكرية ضد الإسرائيليين، ويرى أن امتناع الحكومة عن هدم بيوت منفذي العمليات خاصةً داخل مدينة القدس والخط الأخضر، هو الذي ساعد في اتساع إطار عملياتهم، وشجع العديد من شبانهم على القيام بعملياتٍ مشابهةٍ، طالما أن العقاب لا يردع، والأحكام لا تنفذ، والبيوت لا تهدم.
يدرك كثيرٌ من الإسرائيليين أن مواقف بينت المتطرفة ليست إلا شعاراتٍ في بازارٍ انتخابي كبير، وأنه يتطلع من خلال عرض أفكاره وبيان مواقفه إلى الحلول مكان نتنياهو والاستيلاء على منصبه والاستئثار بموقعه رئيساً للحكومة الإسرائيلية، وهو يرى أن طريقه إلى مكتب رئاسة الحكومة يمر عبر الأحزاب الدينية وتكتلات المستوطنين المتطرفة، والأحزاب القومية المتشددة، وهو يستطيع أن ينفخ في نارها، وأن يثير بمواقفه مشاعرها، وأن يحركها صوب الصناديق الانتخابية لتصوت له، ولكنهم يرون أنه أبعد ما يكون عن مكتب رئيس الحكومة، وآخر من يستطيع أن يترأس حزب الليكود، وإن كان شاباً يتقد حماسةً، ونشيطاً لا تفتر همته، ومتديناً لا يخفي تطرفه، وعسكرياً لا يتردد في تنفيذ أمر قيادته.
بقلم/ د. مصطفى اللداوي