لكل من اسمه نصيب ، وصف يليق بالقمة العربية التي عُقدت على البحر الميت في الأردن ، في دورتها الثامنة والعشرين . فلا البحر عادت له الحياة ، ولا القمةُ غادرت مربع خذلان ملوكها ورؤسائها وأمرائها وهوانهم حد الغرق في التزلف والتملق لمُخلصهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ، من خلال من حملته كلمات من تعاقب على اعتلاء منصة الخطابة التي ازدحمت بهم ، في مشهدٍ يُدلل على جهود أردنية ، وأخرى أمريكية ، قد أثمرت في هذا الحضور اللافت . ومن باب الإنصاف القول ، أنّ فخامة الرئيس اللبناني العماد ميشال عون وقف منفرداً في مواقفه المُثمنة والمُقدرة ، فكانت فلسطين والقدس والحالة العربية المتردية ، ودماء الأبرياء التي تسفك في غير مكانها ، والتنبيه من الاستمرار في منزلق تدمير دولنا وهدر نفطنا وثرواتنا بأيدينا ، هو ما أفسح في المجال أمام التدخلات الخارجية في شؤون وطننا العربي . هي عناوين الخطاب الرسمي للبنان العربي المقاوم ، الذي لم تعرقله رسالة المغردين من خارج سرب التوافق اللبناني ، ولا السجادة المفروشة في مكان انعقاد القمة .
قمة حُضِرَ لها بشكل يتناسب ومتطلبات المرحلة المقبلة ومحددات السياسة الأمريكية للإدارة الجديدة برئاسة دونالد ترامب في منطقة الشرق الأوسط ، والتي تتلخص وحسب الكثير من المؤشرات نحو ملفات تتمحور في محاربة الإرهاب وتقف داعش على رأس هرمه ، ومواجهة التطلعات الإيرانية ونفوذها في المنطقة ، وإنهاء الصراع العربي الصهيوني عبر إيجاد حل للقضية الفلسطينية ، والتي من المؤكد أنها حلها لن يكون إلاّ على حساب الحقوق والعناوين الفلسطينية . والتحضير للقمة قد مرّ في دهاليز التسويات بين العديد من الدول العربية التي شهدت الكثير من الخلافات بينها وصلت حدّ الاتهامات المتبادلة والسجالات السياسية والإعلامية والقطيعة . حيث من المعتذر أن يُكتب للقمة النجاح في مشهد الحضور الرتيب ، وبالتالي تسويق التوجهات الأمريكية المطلوبة من القمة التأكيد عليها ، تحضيراً لمشهد قادم تعمل عليه إدارة الرئيس ترامب ، وهي لأجل ذلك حرصت أن تضع ثقلها في إنجاح تلك التسويات ، كمدخل لما تعتزم العمل عليه في المرحلة القادمة التي تلي ما أسمته معركة تحرير الرقة من تنظيم داعش . ولعلّ المدخل لتلك التسويات هي حل الخلافات بين القطبين الأكثر حضوراً في الساحة العربية راهناً مصر والسعودية . وعلى هذا الخط من الواضح أن الرئيس ترامب وإدارته قد بذلت جهوداً واضحة في هذا السياق ، ظهرت نتائجها في جلسة الافتتاح ، من خلال كلمة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي أفرد في خطابه فقرة خصّ إيران ونفوذها في المنطقة ، ودعوته إلى ضرورة مواجهة الطموحات الإيرانية في المنطقة ، وهي الفقرة المطلوبة فقط لعودة العلاقات المصرية السعودية إلى مجاريها ، وهي أي السعودية التي كانت قد استبقت القمة ، فأعادت هبتها النفطية إلى مصر لتلبية حاجات سوقها . ومن ثم حل الخلافات السعودية العراقية ، التي توجت بزيارة وزير من الواضح أن نقاط البيان الختامي تُدلل على تلك التسويات ، بحيث كل طرف حصل على الخارجية السعودية عادل الجبير ولقاءاته مع العديد من القيادات العراقية ، وقف في مقدتهم رئيس الوزراء حيدر العبادي . والأكثر تأكيداً على نجاح تلك التسويات للخلافات ، طبعاً من خارج العلاقة المصرية القطرية التي تشهد القطيعة بينهما ، التي لم تفلح كل الوساطات في كسر جليدها ، فإنّ ما تضمنه البيان الختامي للقمة من فقرات وعناوين ، جاءت على مقاس ما أراده كل بلد .
من كل فقرات البيان الختامي ، ومن قبلها كلمات الرؤساء والملوك والأمراء ، بقيت قضية فلسطين وما تتعرض له عناوينها ومقدساتها أسيرة المواقف التي لا تغني ولا تثمن الشعب الفلسطيني في شيء يمكن أن يعتد به في مواجهته الأسطورية لكيان اغتصب أرضه بقوة الحديد والنار والتخاذل العربي الرسمي في الذود عنها . تلك المواقف التي لم تكسر رتابة الذين توالوا على الكلام ، بما فيهم رئيس السلطة الفلسطينية السيد محمود عباس ، الذي جاء كلامه سردياً ومكرراً . في استجداء مهين هدف إلى خطب ود نتنياهو وكيانه العنصري المرتكب للجرائم اليومية بحق الشعب الفلسطيني وأرضه ومقدساته . سوى ما أسلفت حول ما جاء في كلمة الرئيس اللبناني العماد ميشال عون . وبذلك كانت الرسالة الواضحة أن الرسمية العربية لا زالت تتمسك بالتسوية وعنوانها مبادرة ما تسمى ب" المبادرة العربية " ، التي يجري العمل على إدخال التعديلات عليها بما يستجيب للمطالب " الإسرائيلية " ، وينال الرضا الأمريكي عليها ، وهذا ما سيحمله الرؤساء السيسي وعبد الله وعباس إلى الرئيس ترامب خلال أيام .
واللافت أيضاً أن حماوة المواقف العدائية التي كانت قد اعتادت عليها دول البترودولار اتجاه سورية قد خفت لهجهتها بالقياس مع القمم السابقة . وهذا مرده ليس لأن تلك الدول غيرت من توجهاتها ومواقفها العدائية اتجاه الدولة والشعب السوري وقيادته ، بل لأن الميدان السوري قد مال بشكل واضح إلى جانب الدولة السورية وحلفائها ، وفي غير صالح المجموعات المسلحة بما فيها داعش والنصرة ، التي تُؤتمر وتُشغل وتُمول من تلك الدول ، التي حاولت وقبل أيام من انعقاد قمة بحرهم الميت ، الإيعاز إلى تلك المجموعات في شن هجمات بائسة في محيط مدينة دمشق وكان قد سبقتها تفجيرات طالت عشرات الأبرياء . مما فرض تغييراً في الأولويات لدى إدارة الرئيس أوباما التي أعلنت أن إسقاط الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد ليس من أولوياتها ، بل هزيمة داعش هي الأولوية الآن .
قرارات القمة لم تحمل جديداً على مستوى الشارع ، وأبقت شعوبه العربية غارقة في أملاحها ، بعد أن غرقت في دماء بعضها البغض منذ ما سمي ب" الربيع العربي " ، الذي قال عنه أمير الكويت معترفاً بعد خراب البصرة :- " إنّ وهم الربيع العربي أطاح بأمن واستقرار المنطقة " . ولكنها مما لا شك فيه أنها تؤسس لمرحلة ترامب الشرق أوسطية ، قد نرى من خلالها نشوء حلف يأتي تتويج لمؤتمر إقليمي تسعى ورائه " إسرائيل " بمباركة أمريكية ، للبحث في تسوية تاريخية في المنطقة بهدف إعادة رسم هندستها سياسياً واقتصادياً وعسكرياً بما يتوافق والمشروع الصهيو أمريكي في المنطقة .
رامز مصطفى
كاتب وباحث سياسي