منذ أن تسلمت حكومة الوفاق الوطني زمام الأمور، اتجهت أنظار الجماهير نحوها بشوق كبير، لعلها تخرجها من بؤسهم وجحيمهم، وعبّر الناس عن خالص إعجابهم وسرورهم، وبعثوا بابتهاجهم وتهانيهم؟ إلى أن فشلت في حل مشاكل الناس التي بلغت ذروتها في هذه الأيام، ولم تمتلك الشجاعة للحديث عن آلامهم، حتى وصل حالهم إلى ما نراهم عليه اليوم، دون أحلام، ودون آمال على وجه الضبط، وكأن الناس في قفص من حديد، وباتت الحكومة غير قادرة على الوفاء بكل ما يتطلبه وجودها في الحكم، بما يحسن خدمة الوطن، ويكفل لأهله العزة والكرامة.
فبدلاً من تعزيز الوحدة الوطنية وانهاء الانقسام، ومدّ يد العون والمساعدة، خاصة لقطاع غزة بموظفيه وعماله وجميع شرائحه، لجأت تلك الحكومة إلى زيادة معاناتهم وتعميق أزماتهم بتنفيذ قرار بدا غريباً ومفاجئاً بخصم نسبة ثلاثين بالمائة من رواتب الموظفين في غزة الجريحة دون إخوانهم في الضفة.
وهو ما كرسته حكومة الوفاق أخيراً بهذا القرار الذي يثير الريبة، ويترك انعكاسات خطيرة تمس النسيج الاجتماعي والوظيفي دون التمعن في معاناة موظفي غزة المتراكمة جراء هذا القرار الذي أعاد نكأ الجرح، وينذر بحالة انفجار جماهيري إن لم تسارع الحكومة بمعالجة الموقف بحكمة.
وإنّ أسوأ أنواع الظلم هو الادعاء بأن هناك عدلاً، والحكومة وجدت من أجل الشعب، لا الشعب من أجل الحكومة، فالمسؤول الحقيقي هو صديق الساعات الصعبة، ولذلك كله، أتمثل قول كليمنصو وجملته الشهيرة: (أنا ضد الحكومات، بما فيها حكومتي!).
فالشعب المطحون في قطاع غزة، الذي طحنته أعباء الحياة، وإحساسه العميق بما يزلزل كيانه العام، وينتظر مَن يأخذ بيده، ولا يجد من القائمين على حكمه إلا الطغيان والأنانية والمبالغة في تحطيمه، وهو يلوذ بصبره العجيب، وسط هذا الخضم من السيطرة عليه والتحكم في مصيره؟ هذا الشعب الذي آثر السكوت، ووقف يرقب تطور الأحداث، ولم يجد متنفساً لإعلان سخطه على استبداد وجور الحكام إلا في مجالسه الخاصة، أو على صفحات التواصل الاجتماعي، يهمس بالقول ولا يجهر به، ما يدل على مزيد من الحذر، هذا إن لم نقل إنه يدل على الفتور والتقاعس، وإيثار السلامة، وقد نالهم جميعاً من سوء الجزاء ما نالهم.
فلا وجود لوطن حر إلا بمواطنين أحرار، يقول سارتر: (أنا أكره الضحايا الذين يحترمون جزاريهم)، أما شكسبير فيقول: (في لحظات معينة يكون الناس هم الذين يقررون مصائرهم، لذا إذا كانت أوضاعنا متدنية فليس الخطأ خطأ النجوم والأبراج، إنه خطؤنا نحن)، فالوطنية كلٌ لا يتجزأ، والانتماء لا يقبل القسمة، والرجال تصنع أقدارها بأيديها، والشيء الوحيد الذي يجب أن نخافه هو الخوف.
إن مدينة غزة، هذه الدرة الساحلية، من أرض الشرق الساحرة، التي هي قطعة من فلسطين، وتوصف بطائر العنقاء، رمز التحدي والقوة؟ وتلك التي أُتيح لها، على ضيق رقعتها، أن تصبح منارة، فكان من الطبيعي أن يشع نورها فيما حولها؛ حتى كبرت في أعين المؤرخين كمدينة عربية قديمة.. تنتظر مَن يخفف عنها همومها، أو ينسيها بعضاً منها، أو يجفف عنها دموعها، بعد أن تزعمها واعتلى صهوتها مَن فعل.
ولا فضيلة في حاكم أشرف من الرحمة، وما أبشع حب الانتقام والقسوة إذا تستر بزي العدالة، يقول الكاتب الكبير محمد فريد أبو حديد: (أفضل الناس هو أجدرهم بالإكبار، وأقلهم قدراً هو الأناني الذي يزاحم لكي يخطف ما ليس من حقّه، وأحقرهم هو الذي يعتدي على الآخرين بقوته وسلطانه).
إنّ الوطنية شعور يتأصل وينمو في الناس، ويزداد لهيبه في القلوب كلما كبرت هموم الوطن وعظمت مصائبه، ومَن لا يقدر أن يقوم بواجبه نحو وطنه، لا يحق له أن يتنعَّم بخيراته، ويعيش بين ربوعه، فالوطن هو المنطلق ولسنا في حاجة للإتيان بأمثلة على أهمية الوحدة والتضامن في حياة الشعوب، لقد قالوا: (مَن لم يقرأ العواقب، فما الدهر له بصاحب).
بقلم/ نعمان فيصل