في بلادنا كما في بعض بلدان العالم الأخرى، يحاول الماضي احتلال الحاضر، وسوقه مخفوراً في اتجاهات إخضاعية، وبالتالي نصب مكامن محكمة للمستقبل، من أجل استعادة ماضي الهيمنات الإمبراطورية التي اندثرت، ولم تندثر معها سرديات العظمة والجنون واختراع تواريخ من الأسطرة والخرافات المؤسسة، وابتداع طرائق متجددة تبعث على انتشار روح الاستبداد وإفشاء الفتنة، أو الفتن التي يجرى التعاطي معها بطزاجة كاملة؛ وكأنها تحصل اليوم، ليعاد إيقاد نيرانها من جديد، من جانب كل طامح للسلطة، أكان فرداً أو فئة أو نخبة أو جماعة، فككوا انتماءاتهم وهوياتهم، وبزوا التوتاليتاريات الشمولية في التسلط والاستبداد، وأيقظوا فتن "الأجداد" من سباتها، كي يستأنفوا صراعاتهم بين فرقهم وتياراتهم وقبائلهم وعشائرهم، التي ما شهدت أي نوع من أنواع الوحدة أو التوحد على امتداد تاريخها كله، فأي قداسة للماضي، في ظل الهلام والانحطاط اللذين يواصلان مسيرتهما "الظافرة" حتى الحاضر "المجيد"، وأي ماض هو ما سيجرى تقديسه في مستقبلنا البعيد؟
وإن يكن لكل "داعشه"، فإن ما نراه من مكابرة المتدينين العصابيين، وعنادهم الذي يعتقدون أن له طابع "المقدس"، وهم يقررون أن لا إمكان متاح، أو يمكن أن يتاح، أمام مسألة مصالحة الدين أو التدين مع الحداثة والمعاصرة، ذلك أن أصحاب "الصوت العالي" والسطوة العليا التسلطية، من عنصريي الشعبويات الشعوبية، وإسلامويي "الإسلام الجهادي" أو الإرهابي الأكثر "تنوعاً" والأشد اختلافاً وخلافاً وتكفيراً لمجموع المؤمنين من كل الأديان، هم الذين يشكلون المجموعات أو المجاميع التي تخضع لمؤثرات من خارج البيئة الوطنية أو حتى الدينية، وبالتالي فهم من ينفذون أجندات لا علاقة لها بما هو محلي أو داخلي، أو بما له علاقة بالدين أو الأديان بكلياتها، وما ترمز إليه من قيم وأخلاقيات وتشريعات وشرائع، ابتعدت عنها تلك المجاميع تنظيراً وسلوكاً وممارسة، وما وجدت من سبيل أمامها يلبي طموحاتها العصابية المرضية، سوى ارتياد دروب الإرهاب والخراب للمجتمعات والدول، وتدمير و/أو تفتيت مكوناتها، وتحطيم بناها وروابطها الأهلية والدولتية، حتى أشرفت أو تشارف بلدان ومناطق بأكملها أن تصبح صحراء خاوية، بعد أن مر زمان كانت تعيش على مشارف التمدن والحداثة، كأفراد وكمجتمعات ودول.
مثل هذه النقلة أو النقلات النوعية في تصعيد الخلافات التناحرية الفتنوية على المرجعيات الأساس للتدين، لم تتسبب إلا في خلق وتفشي حالات من التمذهب الزائف، و "الداعشية المختارة"، وإيقاظ وإيقاد نيران العديد من الفتن، والتسبب في نزاعات وصراعات أهلية طويلة المدى، بما حملته وتحمله من تدمير للسلم الأهلي والوطني، وخلق تضادات وشروخ مزقت الهوية، وصراعات شتى على مسمياتها، حتى باتت كل قضايانا الرئيسة تقاس ويراد إخضاعها قسراً لمنطق يخضع بدوره للرؤى والرايات والقمصان السود، ولا يتزنر أو يتمنطق إلا بـ "قداسة" التكفير أو التخوين، بدلاً من التفكر والتفكير، والتدبير البشري الأنسب لنسبية الكائن البشري، غير "المطلق" أو "الأسمى"، على ما يدّعي الكثير من المتدينين العصابيين من كل الأديان، وهم يرفعون من أسهم تدينهم في محاكاتهم لما يعتقدونه المطلق.
هكذا ذهبت وتذهب مجاميع التمذهب التكفيري إلى حد تقديس الماضي، حتى وهي تختلف على مرجعياته الأساس، من دون أن تصل إلى الحد الأدنى من أي شكل من أشكال التوافق، تماماً كما فعلت وتفعل الخلافات السياسية الباقية أكثر انفلاشاً، وخضوعاً وإخضاعاً لما يضاد توافقاتها الممكنة، لا سيما تلك السلطوية، وصولاً إلى إفشال وإجهاض ثورات شعوبنا الوطنية والاجتماعية، الهادفة إلى بناء مجتمعات مدنية ومواطنة ديمقراطية، ودول حضارية حديثة.
وإذا ما بقي الماضي مهيمناً على الأفهام والأفكار، واعتماد مراجع أكثر ماضوية، اعتمدها الأسلاف الأوائل ومن تبعهم من أسلاف، فلن تكون ثوراتنا وحراكاتنا الثقافية والسياسية على سوية الفعل والإنجاز الحداثي والعصري المطلوب، كضرورة من ضرورات العيش في الحاضر، والتطلع إلى المستقبل، مع ضرورة انتقاء الأكثر تنويرية من إرث وتراث الأسلاف، لا التعلق بأهداب ما نقلوه وتناقلوه من دون تمحيص عقلاني، وإلا بقينا نعيش مراوحة دائمة في قلب الخراب، وعلى حدود التردي الدائم، والانحطاط المتواصل جيلاً بعد جيل.
ماجد الشّيخ
* كاتب فلسطيني