لا تُمثل الفكرة القائلة بأن في وسع الولايات المتحدة الأمريكية أن تواصل تعهداتها بتحمل الأعباء والالتزامات الخارجية إلا نوعاً من (الفانتازيا السياسية) كالتي تتحدث عنها بعض الكتب الصادرة حديثاً وتحمل عناوين طنانة.
هناك إدراك روسي أمريكي أن لأزمة أوكرانيا أبعاد لن تصيب الروس فحسب بل الأمريكان أيضاً والذين يناضلون لكسب الشرق الآسيوي اقتصادياً ولا زالت الصين تتقدم عنهم في هذا المجال ولقد أدى صراع المصالح لتقارب أمريكي روسي ظهرت بوادره في سوريا.
لقد أصبحت الحرب في سوريا هي السياسة نفسها، لذلك بدا الاهتمام بالسياسة الرمزية من خلال استخدام القوة مظهراً من مظاهر التفوق وهذا نتاج الحروب الجديدة، التي تحولت من حروب بين الدولة والجيوش إلى حروب بين دولة ولا دولة أو دولة وجماعات
كما بات الاقتصاد لاعباً مهماً في طبيعة تلك العلاقات، كما أنه أصبح يخدم السياسة والسياسة الدولية تأثرت به، فعلى سبيل المثال هناك تراجع في الاقتصاد الأمريكي في جنوب شرق أسيا، وتراجع مقابل في إطار صندوق النقد الدولي، ودول البريكس صارت من بين الدول العشرة الأولى صاحبة الأسهم، ولها إجمالي نسبة أصوات مقارنة بالحصص 14.7% في حين أن الاستحواذ على 15% يتيح للمجموعة حق النقض الفيتو في صندوق النقد، مما يعني أنها باتت على عتبة التعطيل للقرارات التي تنفرد بها أمريكا.
فالغرب الذي اعتاد إدارة العالم لقرون بات أكثر اقتناعاً بأن عهد الاحتلال والفتوحات في العالم انتهى، ورغم كل القناعة يصعب عليه قبول ذلك، لكن الأمور تتغير وحصة الغرب والأمريكان من الناتج المحلي العالمي في تراجع.
في العقدين الأخيرين أصبحت الصين الشريك الاقتصادي الرائد لبلدان جنوب شرق أسيا فهي تبذل جهوداً جبارة لرفع تعاملاتها الاقتصادية مع دول يبلغ دخلها الإجمالي السنوي 204 تريليون دولار، ويتنامى بسرعة كبيرة، ففي العام 2014 سجلت التجارة بين الصين والأعضاء العشرة في رابطة جنوب شرق آسيا نمواً بلغ عشر أضعاف حيث وصلت إلى 350 مليار دولار في العام 2014 بعد أن كانت 32 مليار دولار العام 2000، والتوقعات أن تصل إلى 500 مليار في أعوام قادمة لتصبح بذلك الشريك الأكبر لبلدان جنوب شرق أسيا بعد تراجع أمريكا للمركز الرابع بتجارة إجمالية 206 مليار دولار.
ولتمتع الصين بالقدرة على الاستثمار حملت كل دول جنوب شرق آسيا على التوقيع كبلدان أعضاء مؤسسين (للبنك الآسيوي للاستثمار) في البنية الأساسية، والذي تقوده الصين رغم معارضة الأمريكان، وتعهدت بالمساهمة بمائة مليار دولار كاستثمار أول وبذلك تبدوا منافساً للبنك الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة.
ولم تقف عند هذا الحد بل تفكر على نطاق كبير بدورها في آسيا ففي اجتماع التعاون الاقتصادي ( لمنطقة أسيا والمحيط الهادي ) في العام 2014 وافق الزعماء على تبني فكرة التجارة الحرة والتي تدعمها الصين والقصد منها بوضوح الرد على اتفاقية الرئيس الأمريكي باراك أوباما ( الشراكة عبر المحيط الهادي )و تضم كل من أمريكا ، واستراليا ، وبروناي ، و كندا وشيلي ، واليابان ، و ماليزيا ، و المكسيك، و نيوزيلندا ، وبيرو ، و سنغافورة ، و فيتنام، والتي تستبعد الصين، كما تقوم الصين حالياً وحسب تقرير رسمي عن الاستراتيجية العسكرية صدر في مايو / 2015 بتوسيع إنفاقها العسكري، وتنفيذ خطط توسيع المحيط الدفاعي للبلاد وبناء منشآت عسكرية على جزر، وجزر مرجانية كانت غير مأهولة سابقاً في بحر الصين الجنوبي، والتي أثارت كما الاقتصاد نقاط خلاف مع الأمريكان الذين يرون فيما يحدث مطالبات إقليمية متضخمة للصين.
لذلك وعلى نفس النهج الصيني المشار أعلاه قررت الصين تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع إيران، والتي تربطها بالأساس علاقات اقتصادية معها، وذلك على أثر رفع العقوبات الاقتصادية لذلك قام الرئيس الصيني ( شى جينبينغ ) بأول زيارة لرئيس صيني لإيران منذ 14 عاماً وبعد أسبوع فقط من رفع العقوبات عنها، وجاء في بيان مشترك بين البلدين أنهما تعهدا بإجراء مفاوضات لتوقيع اتفاق تعاون يمتد على 25 عاماً والقيام باستثمارات متبادلة في مختلف المجالات ولا سيما النقل والمرافئ والطاقة والصناعة والخدمات، وأضاف البيان أن الصين تنوي القيام باستثمارات وتقديم تمويل في مجال صناعات الطاقة في إيران.
وفي المؤتمر الصحفي الذي عقد مع الرئيس حسن روحاني أعلن الأخير أنهما ناقشا رفع مستوى العلاقات الاقتصادية إلى 600 مليار دولار في غضون عشر سنوات، وكانت حتى العام 2014 قد بلغت 52 مليار دولار كما أشارت وسائل الإعلام الإيرانية أن 36% من التجارة الخارجية لإيران تحصل مع الصين وهي أبرز البلدان التي تشتري النفط الإيراني.
هذا في حين أعلن الرئيس الصيني الذي التقى المرشد الأعلى (على خامنئي) أيضاً خلال زيارته أنهم توصلوا لتوافق كبير في المسائل الإقليمية، والدولية وقرروا إقامة علاقات على أساس شراكة استراتيجية، وأن الصين ترحب بالدور البناء لإيران في تصديها للإرهاب.
وقد رافق الرئيس الصيني في زيارته ثلاثة من نواب رئيس الوزراء، وستة وزراء، ووفد اقتصادي كبير.
لقد رأى كثيرون في التدخل الروسي إعادة للتوازن في العلاقة مع الأمريكان، وهو ما سيؤدى لحلحلة العديد من الأمور العالقة بينهم فروسيا التي وقعت تحت العقوبات الاقتصادية لدول الغرب بسبب أزمة (أوكرانيا) أدت عزلتها النسبية إلى:
1-اتجاه الروس ناحية الصين لتوفير خط إنقاذ اقتصادي بسبب العقوبات.
2-قراءة الروس أن هذه فرصة مواتية لبكين لتحقيق هدف جيد اقتصادي أساسي وهو ربط الشرق الروسي الغني بالموارد، والشمال الصيني الصناعي فيما يطلق عليه منطقة تكافل اقتصادي واحدة.
3-رؤية الروس أنها بذلك ستخسر كلفة سياسية محتملة في تقلص سيادتها على أراضيها وعلى شرق أسيا، وخسارة في مكانتها باعتبارها قوة (أورو آسيوية).
4-أن ذلك كله سيعزز القوة العالمية والإقليمية للصين ويفرض كل أنواع التعقيدات الاستراتيجية.
هذه الصراعات على النفوذ قادت الرئيس الأمريكي ترامب ان يوجه ضربته لسوريا التي أصبحت كما قلنا كيس المخدة التي تستعرض فيها الدول قوتها، حيث ضرب مطار الشعيرات ب 59 صاروخ من نوع توما هوك، وهو يأكل الحلوى مع الرئيس الصيني حسب قوله، في حين ان المصادر ذكرت منذ بداية الضربة ان الوفد الصيني غادر بعدما همس ترامب للرئيس الصيني بأنه الآن ينفذ ضربة لسوريا.
وبرر الرئيس ترامب الضربة بقوله: "إن المصلحة الأمنية الوطنية الحيوية للولايات المتحدة هي منع وردع انتشار الأسلحة الكيميائية الفتاكة واستخدامها ". ومع ذلك، فإن المسؤولية عن الهجوم الكيميائي ما زالت موضع خلاف، في حين أنكرت الحكومة السورية ذلك.
وصف الناطق بإسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف الهجوم الصاروخي الأمريكي بأنه انتهاك
للقانون الدولي ومبني على حجة غير منطقية ومثلها مثل حجة الحرب على العراق.
بعض النواب الأمريكيين اعترضوا على الضربة ومنهم عضو مجلس الشيوخ ران بول حيث قال: نحن ندين الفظائع في سوريا ولكن الضربة لم تكن موجهة لأمريكا، وبعض النواب تذرعوا بان الضربة لم تأخذ موافقة الكونغرس الأمريكي وبذلك موافقة الشعب الأمريكي.
ما تسرب بعد ذلك من معلومات أن الروس كانوا على علم بالضربة وأنهم قاموا بإسقاط عدد من الصواريخ وما سقط منها على المطار كان في الوجبة الثانية بعد مغادرتهم، اعتقد بأنه لا يرقى لدرجة التصديق، وأن درجة التنسيق بين الجانبين كبيرة وهناك تقارب في السياسات فيما يخص سوريا والعراق، اذاً ما حدث في سوريا وما رأيناه هذه الأيام من ضغط على كوريا الشمالية هو نوع من الضغط على الصين اولاً ومن إرضاء لدول الخليج وطمأنة كاذبة لهم لأن الضربة خدمت سياسات وستنعكس اقتصادياً أكثر منها تدخل في حل للمعضلة السورية، والتي حسبما يبدو باتت مكان لحل الازمات الدولية والإقليمية.
بقلم/ جمال ابو لاشين