لأن الحياة ذات فقد؛ خسر الشعب الفلسطيني على مدار المائة عام الأخيرة الكثير، حيث فقد أرضه واستقلاله، وحريته، والدفاع المستميت من العرب والمسلمين عن أرضه المقدسة. رحل بلفور ولكن وعده لازال باقياً في نفوس الصليبيين، ما زالوا على العهد والوفاء لما أشار إليه الوعد بتأييد الحكومة البريطانية إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين يزعمون أن لهم فيها ارتباطات تاريخية ودينية.
أتت الجهود السياسية والإعلامية العظيمة التي يقودها مركز العودة الفلسطيني في لندن مطالبين باعتذار بريطانيا عن وعد بلفور الشهير متأخرة ولكن أفضل من ألا تأتي. ولا يمكن وصف حشد 11 ألف بريطاني لهذا الغرض بأقل من أنه موقف مشرّف وذو دلالة على تحول هام في الرأي العام ويعمق تأكيد حقوق الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية. إنهم أمنوا أن الاعتذار عما سببه وعد بلفور من معاناة للشعب الفلسطيني هو أقل ما يتم توقعه من بريطانيا نظراً لإعطائها لطائفة لم تكن في فلسطين.
اعتبرت بريطانيا أن الأمر تاريخياً ولا نية لها بالاعتذار منه، بل على العكس من ذلك فهي تشعر بالفخر لمساندة اليهود في إيجاد وطن لهم تحت ظل تجاهل كبير لأهمية الأمر بالنسبة للفلسطينيين وحقوقهم المشروعة في أرضهم ووطنهم وهو ما لاشك فيه أنه يعد ظلم تاريخي لهم وإهانة كبيرة للعدالة الدولية.
ليس غريباً أن يأتي الرد البريطاني محملاً برفض الاعتذار عن وعد بلفور وفاءً وتسهيلاً لمهمة إقامة وطن لليهود على أرض فلسطين، وهو ما جعل الشعب الفلسطيني ضحية الاستعمار البريطاني وحرمانه من وجود دولة مستقلة لهم حتى اليوم. كما يعتبر رفض الاعتذار تجديد استعمار فلسطين بالوكالة لصالح سلطات الاحتلال وإجازة كل ما تقوم به على أرض فلسطين من استعمار وتهجير قسري وتطهير عرقي منذ منح الوعد لهم. كما أن تعبير بريطانيا عن فخرها بإقامة وطن قومي لليهود واقتلاع الشعب الفلسطيني من وطنه الأصليه هو جريمة سياسية وقانونية وأخلاقية تُلاحق بريطانيا حتى قيامها بالاعتذار.
جاء الرد إهانةً للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة، وشرعنة وجود الاحتلال وسياساته وممارساته القهرية والقمعية بحق أرض فلسطين وشعبها في الحصول على العدالة وحق تقرير المصير في ظل تجاهل كامل لمسوؤليتها التاريخية تجاه الشعب الفلسطيني وبناء مستقبل سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
صفع الرد البريطاني في وجه المعترضين بديلاً يفيد أن بريطانيا تدعم السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين وتسوية الصراع بين الطرفين من خلال "حل الدولتين" كأفضل حل. وما لا يمكن اخفاؤه هو أن هذا البديل هو الخطة التنفيذية لوعد بلفور والتي ستدفع إلى تأسيس دولة إسرائيلية آمنة تعيش جنبا إلى جنب مع دولة فلسطينية قابلة للحياة وذات سيادة بناء على حدود 1967 مع تبادل الأراضي وفيها القدس كعاصمة مشتركة بين الجانبين ضمن إطار منطقي وعادل يشمل قضية اللاجئين ويرضي الطرفين.
من المضحك أن نسمع أصوات من اليهود يطالبون باعتذار أخر من بريطانيا بسبب تأخر إقامة وطن رسمي لهم بعد مائة عام من حصولهم على الوعد، وأن بريطانيا لم تكن وفية معهم بالشكل المناسب على الرغم من انحياز الحكومات البريطانية المتعاقبة إلى الاحتلال الإسرائيلي داخل المربع الدولي ودعم قراراته.
لا شك أننا كفلسطينيين وعرب ومسلمين نجدد الإدانة وبشدة لوعد بلفور والرفض البريطاني لتقديم اعتذار رسمي. وإن أقل ما يمكن أن تقوم به بريطانيا هو إعادة النظر في تمسكها بهذا الإعلان الغاصب وتحمل مسؤولياتها التاريخية والقانونية والسياسية والمادية والمعنوية عن نتائج هذا الاعلان بما فى ذلك اعتذار الشعب الفلسطينى عن الكارثة والبؤس والظلم الذي استحدثه هذا التصريح وترك مساحات لوجود فوضى دون حلول.
ينبغي على الفلسطينيين دولة وشعبًا ترتيب أوراقهم ورتق اللحمة الوطنية وتنسيق الجهود الدبلوماسية الدولية ورفع قضايا داخل وخارج بريطانيا على الحكومة البريطانية تطالب فيها بالاعتذار الرسمى للشعب الفلسطينى وتعويضه عن كل أشكال المعاناة التي تعرض لها، والتوجه إلى محكمة العدل الدولية لمقاضاتها على منحها اليهود دولة في فلسطين التي كانت تحت انتدابها. كما ينبغي على الأنظمة العربية والإسلامية أن تتحلى أكثر بالجدية وتنضم لهذه الحملة ودعمها بكل ما أوتيت من إمكانيات أقلها تجميد العلاقات الدبلوماسية حتى يتم الاعتذار بشكل سريع، ودعم جهود "حل الدولتين" وانهاء الصراع.
أ. سلوى محمد ساق الله