قرأتُ رواية " وجع بلا قرار" للروائي الفلسطيني كميل أبو حنيش ، الصّادرة عن منشورات "المكتبة الشعبية ناشرون " في نابلس وتحتوي على 179 صفحة .
كميل روائي فلسطيني يقضي حكمًا بتسع مؤبدات داخل سجون الاحتلال الاسرائيلي، وله العديد من الاصدارات الروائية ومنها رواية "خبر عاجل" ورواية "بشائر".
يصور كميل حياة حكاية الراوي وصديقه علاء، أبناء انتفاضة الحجارة التي كانت فضاء من الطهارة والنقاء، يتيم الأم ، وحكاية تمرّده من خلال المشاركة الفعّالة في الانتفاضة، فيعتبرها لحظة ولادته الثانية مع بزوغ فجر الانتفاضة : "ولادتي الجديدة ، كانت صرخاتي بمثابة صرخة الولادة الأولى وأنا أولد من رحم الانتفاضة كان تاريخا فاصلًا بين مرحلتين: مرحلة الطفل التعيس الذي كنته وقررت ألا أكونه بعد اليوم. فلقد وأدت ذلك الطفل التعيس المستسلم لقدره القميء وشرعت أرعى طفلًا جديدًا أخذ يشب سريعًا مع كل يوم في مرحلة الانتفاضة"(ص 38)، وخيبة أمله وجيله من أوسلو و"قطار السلام محدثًا شرخًا وطنيًا في الشارع ومخلفًا فراغًا هائلًا لدى جيل اعتنق الانتفاضة منهاج حياة"، لأن أوسلو خلقت "قوانين جديدة، ثقافة جديدة، الفساد المستشري في مؤسساتها، المفاوضات العبثية، الأجهزة الأمنية، عسكرة الجامعات، سياسة تكميم الأفواه وقمع الحريات ، الاعتقالات السياسية، التنسيق الأمني، ملاحقة المقاومة الديموقراطية، الوضع الطبقي".
يصور كميل الحالة اليومية في فترة الانتفاضة حيث "تحول الجدار لصحيفة يومية تبث وعيًا جديدًا وتحرّض على الصمود" وشعاراتها الراسخة في أذهاننا : "الانتفاضة مقبرة الاحتلال"، "الانتفاضة مستمرة حتى الدولة... حتى الحرية والعودة"، "نعم للوحدة الوطنية"، "يسقط الاحتلال وعاشت فلسطين"، "لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة"، "أنا إن سقطت فخذ... مكاني يا رفيقي في الكفاح"، ومقولة غسان كنفاني الأبديّة " ليس المهم أن يموت أحدنا، المهم أن تستمروا" و"الاعتراف خيانة".
ومن ثم يصور حياة المعتقل بمصطلحات السجن "برش" "الفورة" "مغلقًا" "الشبح" "الخزانة" "العصافير" ويصور التعذيب الجسدي والنفسي للمعتقل، أسلوب الترغيب والترهيب، أسلوب الصديق وأسلوب الوحش وغيرها، وصوّر الاعتقال وفترة الأسر المقيتة ليغوص في عمق التجربة الإنسانية ببراعة، مؤنسنًا "قضيّته" ليشكّل مرآة للمعاناة اليوميّة .
كميل نِعمَ المثقف الذي ترعرع على أدب غسان كنفاني : رجال في الشمس، العاشق، عائد إلى حيفا، أرض البرتقال الحزين. وأشعار درويش والنواب وطوقان وعبد الرحيم محمود وتوفيق زياد وراشد حسين ومعين بسيسو وأبو سلمى. والأدب الروسي الجميل : الدون الهادئ لشولوخوف، كيف سقينا الفولاذ لاوستروفسكي، الأم لمكسيم غوركي، تحت أعواد المشنقة ليوليوس فوتشيك الذي قال "أية رجولة تلك التي تنهار أمام حزمة من العصي" واضطلع على كتب تتناول الثورات الكوبية، الفيتنامية، الجزائرية، الروسية، الصينية وثورة 36 وتطرق للكتب "التثقيفية" - "بطولات في أقبية التحقيق"، "فلسفة المواجهة وراء القضبان".
تناول كميل "طقوسًا فلسطينية" مثل مراسيم وداع الشهداء وإطلاق الزغاريد المختلطة بالدموع"، اعتقال العملاء والتحقيق معهم وجلبهم للاعتراف على سماعة المسجد، ورفض الخطيب للأخت لأن العريس ينتمي لفصيل آخر غير فصيل الأخ، مشاعر الألم والندم التي تصاحب من يخون باعترافه عن رفاقه فينسلخ عن مجتمعه ويهاجر لأن الشعور بالذنب أكبر واشد ألما من سياط الجلاد رغم أن الخيانة أصبحت عند البعض وجهة نظر!
بطل الرواية ينتمي لجيل رفض دفن انتفاضته في حفرة جديدة من حفر الهزائم العربية ويرى أن "اليتم عاهة دائمة وجرح غائر في الروح. كان يُتمي يشعرني بخطيئة تثقل صدري لا أعرف ما هي الأم" (ص29). أهي يُتم الأرض والوطن ؟ّ!؟ لأن "اليتم يورثك الشعور بالحرمان والنقص، الحرمان الذي يشعرك بالجوع وسط التخمة" (ص32).
فيصِل إلى النتيجة الحتمية بأن ليست كل خسارة... خسارة ولهذا "ما الحل إذا لم يعد لا الإذلال ولا القتل ولا السجن بمحتمل ما عاد لنا شيء نخسره الا القيد" (ص 37)، فهو ترعرع على أشعار محمود درويش التي تحث على الصمود :
" نصبوا الصليب على الجدار
فكوا السلاسل من يدي
والسوط مروحة ودقات النعال
لحن يصفر سيدي
ويقول للموتى حذار
يا أنت... قال نباح وحش
أعطيك دربك لو سجدت
أمام عرشي سجدتين
ولثمت كفي في حياء مرتين...
فعسى صليبي صهوة
والشوك فوق جبيني المنقوش
بالدم والندى اكليل غار
وعساي آخر من يقول"
وصارت البندقية معشوقته الأبدية لأنه تتلمذ على أدب كنفاني وبنادقه ورجاله ، تشي جيفارا وثوريته ، القسام وثورته، عمر المختار، عبد القادر الجزائري، جميلة بوحيرد، وديع حداد، ليلى خالد، هوتشي منه، ماو تسي تونغ فيقول "لا نتوانى عن صد المخرز بالكف، نريد كرامة لا خبزًا مغموسًا بالعار ننشد أحلامًا وبقاء وليس بوسع الدبابات أن تمنع شعبًا يحلم بالحرية" (ص 36) ويتخذ قراره "أن تحمل بندقية هذا يعني أن تفرغ ما في أعماقك من ذل وجبن وخنوع ويأس وأن لا حياة بلا رأس مرفوعة على الدوام" (ص 108).
الرواية موجعة حقًا، والوجع يبدأ بالعنوان الذي يوحي بوجود ألم مستمر بلا نهاية، ومن ثم الإهداء "الى كل من يحتفون بأوجاعهم بوقار والى أمي وهي تعيش وجع الانتظار"، ليستمر بخيانة أيمن التي تشكل فصلًا من فصول الوجع، مرورًا ب"ذاكرتك هي تاريخك وجراحك النازفة وجعًا" معرجًا على قصتنا "ستكون موجعة مثل أي قصة حب تنتهي بالغياب طريدة الموت الدائمة وعليك احتمال وجع الغياب عن الأحبة" وحبيبته أنهار التي تلخص حياته بوجعها وفرحها ... انها تختصر الوطن بكل تضاريسه وتاريخه وآلامه وشهدائه!
ألمه يعود إلى الماضي "كفردوس مفقود حتى وإن كان جحيمًا، أما الآتي فهو ذاك المركب الذي يمخر عباب بحر متلاطم الأمواج تقوده أشرعة الطموحات والأحلام. فحكم المؤبد يمنحك إحساسًا بالمستحيل الجاثم فوق صدرك فتحرص على تأثيث فؤادك بآمال وأحلام ليس بوسعك العيش بدونها". (ص 77) فكانت "الانتفاضة" مخرجًا ايجابيًا له، يستطيع من خلالها الهروب من ظلم "سهام" (زوجة أبيه) أولا، وتفريغ الظلم الواقع عليه وعلى شعبه من خلال عمل عنيف، لهذا وصف الانتفاضة: "ما جاءت إلا لتخلص الجميع من رحى الظلم والاستعباد فانشدت لها بكل جوارحي، لقد صارت بمثابة أمي" (ص38) جعلته متمردًا فيصير كباقي السجناء " ندور بعكس عقارب الساعة أثناء الفورة لا شعوريا يتمردون على الزمن" (ص 101) ليصل إلى النتيجة "أن هذا العالم المتخيل سيبدأ من هنا في فلسطين حينما نواجه العدو ونهزمه فنكون ملهمين لغيرنا. نحن أمناء على أعدل قضية في هذا العالم وإن استطعنا في يوم أن نقهر عدونا سيتغير قدر العالم وسيبزغ تاريخ جديد" (ص 112) ليجد نفسه حالمًا لينهي روايته :"لا يزال يعيش على الحلم. يظل يحتسي الأمل ويعيش على الحلم لأنه ليس بمقدوري أن أسبب له المزيد من الوجع أما وجعه فقد حملته نيابة عنه لم يكن وجعًا عاديًا. لقد كان وجعًا بلا قرار" ... ليبقى متوجعًا خلف القضبان!
قرأت رواية كميل بشغف، شدّتني وشوّقتني لطريقة عرضها وموضوعها ولكن أزعجتني الأخطاء النحوية واللغوية والإملائية - المطبعية فاختلط الحابل بالنابل مما ظلم كميل، وأفقد الحوار بين السارد وعلاء جماليته وشاعريته وهنا ألقي اللوم على د. وداد البرغوثي التي قامت بمراجعة وتقديم الرواية.
عندما أنهيت قراءة الرواية عُدت للإهداء "الى أمي وهي تعيش وجع الانتظار" وجاءني ما كتبه الكاتب الصحفي بسام الكعبي في نصّه السردي المفتوح "صلاة خاطفة لقلب يتمزق" عن وجع والدته حين سمعت قرارًا جائرًا بصلب نجلها عاصم 18 عامًا على قضبان السجون : "ترى هل تبقى في مقلتيها دمعة فرح قادمة لتعانق نجلها محررًا... لكن هل بقي متسع في أيام عمرها تشعلها انتظارا لعودة آخر أحبائها إلى حضنها؟ هل فاض قليلا نهر أحزانها ولم يعد قلبها يحتمل مرارة أكثر.. كيف شقت الأحزان جدول يومياتها ورسمت خارطة حياتها؟" (من الجدير بالذكر أن والدة بسام بدأت رحلتها المنتظمة الى السجون لتزور أبناءها الخمسة لترحل فجر عيد الفطر الجريح 28 تموز 2014 في ذروة العدوان الإسرائيلي على غزة... وهي بانتظار عاصم!)
تحية خالصة وخاصة لجميع أسرى وأسيرات الحرية في اضرابهم المفتوح عن الطعام، حفظًا لكرامتهم في سجون الاحتلال أملاً في إفراج قريب!
المحامي حسن عبادي