نعم نحن خطائين يا سادة، ولكن ...!!

بقلم: عبد الرحيم محمود جاموس

نعم نحن الفلسطينيين خطائين يا سادة ...!، ولكن أقول لكم، جلّ من لا يخطئ، وخير الخطائين التوابون، أليس كذلك؟!، يا مثقفي عصرِّ الضياع والتوهان والخسران والفقدان، والتلاشي في الزمان والمكان، وإختلاط الأعداء بالأصدقاء والظلام مع النور والطغيان.

لقد باتت تطالعنا أقلام من هنا وهناك، تستوطي الحيط الفلسطيني، ولم تجد أمامها جداراً ترتفع عليه سوى الإعتلاء على الجدار الفلسطيني، الذي تحول في نظرهم إلى جدار واطٍ، يمكن القفز عليه في زمن التيه والرداءة، زمن الإنحطاط والرويبضة، زمن التأسلم الكذاب، زمن إنهيار الدول والقيم، زمن الدواعش، والزرقاوي، وأبو سياف، ونتنياهو، وليبرمان، زمن الغياب والتشتت والتمزق والإنقسام ... وكل الأوصاف المنحطة والرديئة، زمن التشيع والتسنن والعلوية، والطائفية مما نعرف أو لا نعرف، لم أكن أتوقع فيما مضى أن أشهد زمنا كهذا الزمن العربي، بكل ما يحمل من مآسي ورداءة، وآلام ودمار، وتشتت في الجهد وتمزق في الهوية والإنتماء، كي يطالنا ما يطالنا من آثام، وتلتبسُ علينا الأيام والأنام، وهذا يعيدني إلى الوراء عقوداً ليست قصيرة في عمر الإنسان، ففي شتاء العام 1974م، كان لقائي الأول بأيقونة الشعر الفلسطيني وأحد كبار رموز أدب المقاومة، أيقونة الشعر الفلسطيني المرحوم محمود درويش وذلك في مدينة الرباط، التي حضر إليها بدعوة من إتحاد كُتاب المغرب الذي كان يرأسه الناقد والأديب الكبير الأستاذ الدكتور محمد برادة أستاذ الأدب والنقد في كلية الآداب، وقد نظم لأيقونة الشعر الفلسطيني المقاوم عشرُ أمسيات غطت عشر مدن رئيسية من مدن المغرب الشقيق، لقي فيها جميعها بالغ الحفاوة والتكريم من العامة والخاصة، التي كانت تحتل مقاعدها في المسارح قبل موعد البدء في الأمسيات، وتجد الواقفين فيها أضعاف مضاعفة للجالسين في إنتظار شدو أيقونة الشعر العربي المقاوم محمود درويش، ولم تخني الذاكرة في مسرح محمد الخامس بالرباط قد إمتلئت المقاعد والردهات والساحات الملحقة بالمسرح قبل بدء الأمسية بساعات، لم تجد مكاناً للجلوس، كانت الجماهير متعطشة للقاء أيقونة الشعر المقاوم، المعبر عن روح فلسطين وروح الأمة من محيطها إلى خليجها، ومحمود كان قد مر على خروجه من فلسطين ثلاث سنوات فقط، وكانت أولى زياراته للمغرب الشقيق، لم يفاجأ محمود بحفاوة الإستقبال الذي لقيه من الجمهور لحظة إعتلاءه خشبة المسرح، حيث وقف الحضور عن بكرة أبيهم يحيي محمود وفلسطين، بتحية لا يحظى بها رؤساء الدول، وتعلو الشعارات المؤيدة والداعمة لفلسطين وشعبها وثورتها ومقاومتها، أدرك محمود أن هذا الإستقبال وهذه التحية ليست لشخصه وإن كان يستحق، وإنما هي لفلسطين ومكانتها في هذه النفوس الأبية والنقية، التي تعتبر قضية فلسطين هي قضيتها، وإن محمود وأدبه قد تماها مع هذه القضية وجسدها خير تجسيد فأستحق الحب والتقدير، ولكنه خشي من هذه القداسة المضفاة عليه وعلى فلسطين وشعبها وقضيتها، فكان جوابه على هذه التحية حينها تلخصها الجمل الآتية: ( دعونا من هذا الحب القاتل، نحن مثلكم، لسنا ملائكة، لا إمتياز لنا عنكم، سوى أننا الضحية الأولى، وقد تكونون أنتم الضحية الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو الخامسة، فكلنا في النهاية ضحية، لا فرق بيننا سوى في الترتيب )، لتعود القاعة واقفة مرة أخرى على رؤوس الأصابع ويعلو الهتاف والتصفيق طويلاً وتردد القاعة نشيد سجل أنا عربي ..! هذا النشيد الذي قاله محمود في ستينيات القرن الماضي تحدياً للكيان الصهيوني وإجراءاته العنصرية التي كان يتعرض إليها شعبنا في الأراضي المحتلة عام 1948م، وكان ملهماً لجيل الشباب في تحدي سلطات الإحتلال.

على أية حال كان محمود مدركاً لخطورة هذا الحب الجياش والقداسة المضفاة على الفلسطينيين سواء منهم المثقفين أو القادة أو الجماهير، ويخشى أن ينقلب هذا الحب وهذه القداسة والتقدير يوماً ما إلى ضده، حين قال ما قاله أعلاه في مستهل أمسيته بالرباط، فصدقت نبوءته، أن الفلسطينيين لا يختلفون عن أشقاءهم سوى أنهم الضحية الأولى، لقد أصبح الجميع اليوم ضحية، ولذا أسقطت القداسة عن الضحية الأولى، وانزاحت الهالة، وإنكشف الواقع، وتعرى الجميع في صحراء التخلف والضياع، وغرقوا في الدم والدمار والإرهاب، وبات الجميع يعاني من تمزق الهوية وصراع الذات، في هذه الصورة السوداء، يستل الخبثاء أقلامهم لينالوا من الضحية الأولى التي كان لها السبق في التحذير والتنذير مما أصاب ويصيب الجميع، لم يتعظوا من كل الإنذارات التي أطلقتها الضحية الأولى، بل صاروا يعيرونها بعد أن علمتهم مبادئ القراءة والكتابة، ورفض الذل والمهانة، وأخذوا يلومون الضحية الأولى كونها ضحية، دون شفقة أو إستهجان في لوم الضحية، ويحملونها تبعات ما أصابها دون تقدير لما أصابها، فهي محلُ اللوم والمحاسبة، أخذوا يحصون عليها أنفاسها، فما بالك بأخطائها، ويتناسون أن هذه الضحية تحملُ وزرهم، ونتائج غيابهم وخذلانهم لها على مدى سبعة عقود طوال، ويطلبون منها أن لا تخطئ، وأن تكون ملاكاً أو كائناً غير بشري أو إنساني، رغم كل هذا الصمود الأسطوري لهذه الضحية الأولى، ورغم كل إنجازاتها وجراحاتها، فهي أمام المحاسبة من المخذلين والمتخاذلين، وأنصاف المتعلمين، الذين يظنون أنهم إمتلكوا ناصية الثقافة والريادة، وباتوا يتطاولون على كل ما هو فلسطيني، ويمارسوا دور المعلم والموجه له، كيف يكون وكيف يقاوم، وكيف يساوم ويناور، وهم فاشلون في بناء الأسرة والعشيرة والقبيلة والمجتمع والدولة، وهل تأتي الحكمة من أفواه الفشلة إلا لتزيد الطين بلة، والفشل فشلاً، فباتت الهزيمة نصراً، والتياسة سياسة، والدمار والخراب والدماء ربيعاً، نعم نحن في زمن الرداءة، زمن الرويبضة، لا تحزن أخي محمود ليست غزة وحدها اليوم تفتقد لبيت أبي سفيان بل تكاد كل المدن العربية تفتقد لبيت أبي سفيان اليوم ...!

وخلاصة القول يا سادة نحن بشر مثلكم نخطئ ونصيب، فلا تتصيدوا لنا أخطائنا، ولا تحصوا علينا أنفاسنا، لأننا ما زلنا الضحية الأولى، والضحية لا تلام يا سادة، ... فنحن في زمن التشتت والفرقة والشرذمة وتقسيم المقسم وسقوط الدول والقيم، وتطالبون الضحية أن لا تخطئ، وقد تركتموها عارية في الصحراء ...!!

بقلم/ د. عبد الرحيم جاموس