*الحالة السائدة: تكفير بدل التفكير، قصور واستجداء، النقل بدل العقل والإتباع بدل الإبداع* دول مختلفة اندمجت في عصر الحداثة والعلوم دون أن تفقد قيمها التقليدية وفسيفساءها الاجتماعية* متى يقتنع أصحاب الفخامة والجلالة ان التاريخ لا ينتظر القاصرين* الكواكبي: "الاستبداد السياسي ناتج عن الاستبداد الديني"*
قال ابن المقفع في كتابه "الأدب الكبير"، في فصل عن الدين والرأي: "إن الدين يسلم بالإيمان، وإن الرأي يثبت بالخصومة، فمن جعل الدين خصومة، فقد جعل الدين رأيًا، ومن جعل الرأي دينًا، فقد صار شارعًا ومن كان يشرع الدين لنفسه، فلا دين له".
كنا عقلانيين نحكم عقولنا، مبدعين ننظر نحو التمدن والرقي، فأين نحن اليوم؟!
يشتد الانتقاد في المجتمعات العربية - الإسلامية، لما يعرف بـ "الحداثة الإمبريالية الصليبية"، حسب تعبير منظري الفكر السلفي .
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا، هل كون الحداثة (أو رديفها: التنوير) جاءت ضمن انجازات ما يعرف بالمجتمعات الإمبريالية الرأسمالية المتطورة، هو تبرير كاف لرفضها والتخلي عنها؟.
لا نبرر الإمبريالية كسياسة ونهج حمل معه العنف الدموي والقهر للشعوب، إنما نطرح سؤالاً من زاوية أخرى ترتبط بواقع المجتمعات التي عانت من سياسات الاستعمار وعنفه وقهره ودمويته، هل كون الحداثة، التنوير، العقل العلمي والرقي التكنولوجي، نتاجَ المجتمعات الغربية المتطورة اقتصاديًا وعلميًا، كافٍ لتبرير رفضنا للحداثة مثلاً، أو لما أنجزته من تنوير وعلوم وتكنولوجيا، والتمسك بواقع اجتماعي مغرق بالماضوية والفقر في كل مرافقه بل والتغزل به؟! الم تشكل الحضارة العربية الإسلامية في وقته منارة للتنوير لم يرفضها احد تحت صيغ دينية او غيرها؟.. ألم يؤثر الفيلسوف الإسلامي ابن رشد بفلسفته على أوروبا أكثر من فلسفة أريسطو، مخرجا أوروبا من ظلمات التقييد والتخلف الفكري إلى نور العقل والتفكير؟
المستهجن انه بدل مواجهة السياسات والدول الاستعمارية المعادية، التي تقف في الصراع العربي الإسرائيلي، بشكل خاص... وبوقاحة نادرة ضد العالم العربي وحقوق الشعب الفلسطيني، نراها تندمج بمشاريعها التي لا تخدم مصالح الشعوب العربية، والمحزن ان معظم الدول العربية، أضحت "صديقة" (بمرتبة عميلة) ومتعاونة مع مصالح الإمبرياليين وأطماعهم ودعمهم للاحتلال الإسرائيلي ومختلف اعتداءاته على الشعب الفلسطيني وعلى دول الجوار العربية، صمتهم الصارخ هو موقفهم الرسمي المتماثل ليس مع الرأس في واشنطن فقط، بل مع الذنب الإسرائيلي أيضا ، الذي بالتأكيد له دور كبير في حماية أنظمتهم وعروشهم وفسادهم. مقابل ذلك توفر الولايات المتحدة لإسرائيل التفوق العسكري، العلمي، التكنولوجي والاقتصادي على جميع الدول العربية منفردة ومجتمعة، وترفض أي إدانة لاحتلاله ورفضه العملي، وليس اللساني... لمبدأ دولتين لشعبين.
نجد أن الغضب والرفض يتجه فقط ضد ما يسميه الأصوليين ب "الحداثة الصليبية" متغابين عن حقيقة أن الحداثة هي في جذور كل التطور الحضاري الذي تجاوزنا وبتنا نستجدي علومه وتقنياته من الغرب، في واقع لم يعد بالإمكان إدارة دولة ومجتمع بدون منتجات الحداثة وحضارتها. من هنا يمكن وصف حالتنا ب "التكفير بدل التفكير"، "القصور والاستجداء" "النقل بدل العقل" و "الإتباع بدل الإبداع"، وعمليا دفع الدول العربية وشعوبها إلى خارج التاريخ البشري. والنتيجة، الاستمرار في البقاء على هامش الحضارة العالمية.. ويؤلمني أني لست متفائلا من المستقبل مع ما يجري اليوم في الدول العربية!!
العالم العربي اليوم بلا آفاق تبشر بالتغيير، بلا رؤية مستقبلية، يخضع لأنظمة لا يقلقها إلا استمرار مصالح القوى (العائلات او القبائل) القابضة على السلطة. حتى الربيع العربي جرى إجهاضه بسبب غياب تنظيمات وطنية ويسارية قادرة على قيادة المواجهة ضد الأنظمة الفاسدة.. القوة المجهزة والمعبأة سياسيا وعسكريا كانت قوى التدمير والقتل، قوى دعمتها الرجعيات العربية بمشاركة الولايات المتحدة.. بدأ الدعم لمواجهة الاتحاد السوفييتي آنذاك في أفغانستان، لكن الوحش الذي جهز بكل الوسائل القتالية يريد فرض سيطرته على العالم العربي.. بالطبع بمباركة أمريكية إسرائيلية، لذلك وفرت له الرجعيات العربية كل التسهيلات، ولا ننسى الموقف الأمريكي المعارض لإسقاط نظام محمد مرسي في مصر!!
يملك العالم العربي طاقات وقدرات لتغيير واقعه وتغيير تعامل الدول المختلفة معه حسب معايير تخدم مصالحة ومكانته... وأنا أدعي انه يملك ما يجعل دول العلم برمتها تعيد حساباتها وأساليب تعاملها. إن تجربة جمال عبد الناصر القصيرة والتي قطعت بوقت حرج من التاريخ العربي أكبر برهان على ذلك!!
متى نشهد تحولا في الاتجاه الصحيح...الم يقتنع أصحاب الفخامة والجلالة والسمو ان التاريخ لا ينتظر القاصرين؟!
أفهم أننا ننتقد العصر الإمبريالي، أفهم أننا ندين أساليب الاستبداد ألاحتلالي الإمبريالي، ولكن كيف نقدر أن نلائم بين احتياجاتنا الضرورية لمنجزات عصر التنوير والعلوم والتكنولوجيا، التي نستخدمها ولم نعد نتخيل حياتنا بدونها، ونقدنا لثوبها الإمبريالي؟! مجتمعنا يحتاج لإنتاج العلوم والتكنولوجيا وليس لاستيرادها فقط، يحتاج لإحداث نهضة اجتماعية واقتصادية وفكرية واسعة، إن العلوم والتكنولوجيا والاقتصاد المتطور، والرفاه الاجتماعي لا قومية أو دين لها. لا مبرر لما نشهده من رفض التنوير والتحديث وظاهرة الاغتراب الحادة لمجتمعاتنا عن منجزات عصرها بما في ذلك موجة الاستلاب للهوية القومية... بل والتخلي الإرادي عنها حتى لهوية داعشية بدون أي خلفية ثقافية أو تنويرية إلا إذا اعتبرنا الذبح بالتسجيل المصور هو التنوير الذي تبشرنا به الدواعش!!
دول مختلفة اندمجت في عصر الحداثة والعلوم، دون أن تفقد قيمها التقليدية وفسيفساءها الاجتماعية مثل الصين واليابان والهند والعديد من دول جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية.
أحد رموز الإصلاح الفكري في التاريخ العربي الحديث، عبد الرحمن الكواكبي يقول في كتابه "طبائع الاستبداد": "الحركة سنة عاملة في الخليقة دائبة بين شخوص (بروز) وهبوط، فالترقي هو الحركة الحيوية، أي حركة الشخوص، ويقابله الهبوط وهو الحركة إلى الموت".
لم أجد أفضل من هذا التعبير لوصف ما يجري في مجتمعاتنا من حركة إلى الموت... وإذا لم نفهم ان التنوير والعلوم، والتحديث والتكنولوجيا هي حركة نحو الحياة، وإن وصف الحداثة والتنوير بالإمبريالية والصليبية هو نوع من سقوط العقلانية، وهذا الأمر يشكل جريمة بحق تجديد انطلاقة المجتمعات العربية نحو آفاق حضارية وثقافية، وكل محاولات أسلمة الحداثة، تفرغها من مضمونها.
إن طرح شعار "الإسلام هو الحل" في المجتمعات العربية والإسلامية، يعطي بلا شك هويةً وقيماً في دول لم تقدم للمواطن أياً من الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية التي تتلاءم مع عصرنا. كل ما قدمته تلك الدول، أنظمة استبدادية بلا مؤسساتِ دولةٍ قادرة على العمل والرقابة، لذا لا استهجن ان يقودنا "التطور" إلى الداعشية في ظل فشل كل البدائل الوطنية واليسارية.
قد يكون "الإسلام هو الحل" جاء ليعطي البديل لسقوط التيارات القومية واليسارية التي وعدت بالحرية وسلبتها، وبالديمقراطية وقمعت الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني وعاقبت المفكرين، وبدل الرفاه الاجتماعي قدمن الفقر والإملاق، شعاراتها الاشتراكية خدمت القطط السمان... بالمقابل نجد أن ما قامت به مؤسسات اجتماعية وصحية وتعليمية إسلامية، حلت مكان مؤسسات الدولة في رعاية الاحتياجات الأساسية للمواطنين...
في واقع تدفق ملايين سكان الأرياف للعمل في المدن، لم يجدوا غير المؤسسات الإسلامية للتوجه إليها ومدَّهم بالرعاية وبهويةٍ هامة افتقدوها في إطار أنظمتهم (القومية!!) الفاسدة والغائبة عن القضايا الملحة لملايين المواطنين...
السؤال الكبير، الذي طرحه أيضًا العديد من الباحثين العرب والغربيين، هو سؤال هام للغاية، هل شعار "الإسلام هو الحل" قادر على حل مشكلات الظلم الاجتماعي والقمع السياسي والتخلف الاقتصادي، وتطوير العلوم والتعليم والتقنيات الحديثة، وحل مشكلة الضعف العسكري في مواجهة إسرائيل مثلاً.... وربما إيران مستقبلاً؟ الأجوبة هنا تكاد تكون واضحة.
لا توجد حلول دينية (إسلامية، مسيحية أو يهودية أو بوذية أو كونفوشية، لا فرق) لمشاكل التطوير والبناء والتقدم.
توجد حلول علمية، خطط مبنية على معطيات العلوم والتكنولوجيا بدون شعارات، مهما صيغت بديباجة لغوية... لن تكون قادرة على حل معضلات المجتمعات فقط باستبدال الهوية الوطنية مثلاً بهوية دينية، ومشاكل ذلك في مجتمعات متعددة الانتماءات، لا ننكر أهمية الهوية الأساسية للإنسان، وهنا سقطت الأنظمة القومية نتيجة ممارستها القمعية وفسادها.
للأسف هذا الواقع بات واضحًا أنه يتجه نحو المزيد من التأزم في المجتمعات العربية والإسلامية.
إلى جانب التضخم السكاني الكبير، هناك عجز كبير في إيجاد عمل للشباب الذين هم في أوائل العشرينات من عمرهم.
بالمقارنة مع التسعينات من القرن الماضي حدثت زيادة بنسب كبيرة جدًا في الدول العربية لعدد الباحثين عن العمل، أبرزها سوريا حيث قدرت ان الزيادة ستكون بمعدل 100% (طبعا قبل الحرب الأهلية المدمرة وبعد انتهاء هذه الحرب سيكون وضع سوريا كارثيا)، أما الزيادة المتوقعة في الجزائر ومصر (قبل الربيع العربي) والمغرب قدرت ب 50%، في تونس 30%. هذه أرقام رهيبة إذا فهمنا أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. تكفي الإشارة أن اقتصاديات هذه الدول تتطور ببطء شديد لا يتلاءم مع الزيادة في عدد طالبي العمل. معنى ذلك ان إضافة نسبة 50% على نسبة البطالة (الرسمية والمخفية) القائمة على أقل تقدير... هو محرك للفوضى الاجتماعية والسياسية ولظواهر الصراع المسلح تحت صيغ مختلفة، بمعنى آخر، فقدان الكرامة الوطنية، والتحول، بخيارهم المطلق... الى أذلاء في تعاملهم مع القوى الطامحة للسيطرة على الشرق الأوسط... وهل ما زالت سرا تفاهماتهم مع إسرائيل؟
اليوم بعد الربيع العربي الذي فجر الدمامل المتقرحة، ولم يقد الى التغيير المرجو، لذا تبرز صورة مخيفة لكل بشاعة ومأساة الواقع العربي الراهن!!
إن قوى التنوير وانطلاق فكر الحداثة في أوروبا، شكلت انتصارًا للعقلانية. من الخطأ الظن أن المثقفين الأوروبيين، من رجال العلم والأبحاث والاقتصاد والإبداع الأدبي والفني يحملون وزر إمبريالية دولهم.
إن استعراض أسماء فلاسفة عصر التنوير والنهضة الأوروبية، وعلى رأسهم جان جاك روسو وفولتير وجون لوك وسبينوزا وكانط، تثبت أنهم كانوا ألدَّ أعداء استبداد الدولة واستبداد الدين في نفس الوقت، وهي المعادلة التي انطلقت منها دول أوروبا الإمبريالية إلى استبداد الشعوب في المستعمرات.
إن رفضنا للحداثة، هو رفض للعقل العلمي والعقل التكنولوجي، ومبادئ التعليم وحقوق المرأة ومساواتها، ومبادئ الديمقراطية، ولكننا نستهلك بدون وعي مستحضرات هذه الحضارة، مثل الإنترنت والتلفزيون ووسائل الاتصالات والنقل الحديثة والتجهيزات المنزلية وغيرها من المواد الاستهلاكية، دون أن نعي حقيقة تحولنا إلى مجتمع استهلاكي ينفي العقل ويحلّ محلّه النقل، يرفض الإبداع ويستبدله بالإتباع، يرفض الديمقراطية ليحل مكانها استبداد سياسي وديني والكواكبي يقول: "الاستبداد السياسي ناتج عن الاستبداد الديني". للأسف، هذا هو واقع المجتمعات العربية.
في مواجهة هذا الواقع نجد مثقفين تبريريين، جبناء يبررون تخلف مجتمعاتهم بخزعبلات "علمية" وإيمان عجائز وتأويلات تفتقد للمنطق العقلي. المثقفون المتنورون يهجرون على الأغلب أوطانهم، أو يُضمن صمتُهم في السجون والقبور!!
هذا الواقع يولد الاغتراب، والمغترب في مجتمعه يفتقد لدوافع التقدم وإحداث التغيير في واقعه وحياته فهل نشهد انتفاضةً للعقل العربي ونحن نحثّ الخطى في القرن الحادي والعشرين... انتفاضة تعيد للعرب مكانتهم في صناعة الحضارة الإنسانية؟؟!
بقلم/ نبيل عودة