انزوى طفلٌ في ركن بعيد يُراقب بحماسة وحزن سباق دراجات تم تنفيذه حديثا في قطاع غزة تضامنا مع أسرى الحرية في سجون الاحتلال، ورغم ولعه بتلك الرياضة إلا أن عدم مقدرة والده على شراء دراجة له منعته المشاركة في السباق، كان يُلح على والده دائما بطلب الدراجة الهوائية، إلا أن والده كان يقف دائماً عاجزاً عن تلبية وعوداته المتكررة له بالشراء، فهو يعجز عن توفير الحد الأدنى من متطلبات الحياة الكريمة لأسرته، فكيف سيقوم بتوفير وسائل تُعد رغم بساطتها رفاهية لآلاف العائلات الفلسطينية في قطاع غزة.
طفلة أخرى، اعتذرت خجلاً من زميلاتها اللواتي طلبن منها أن يقمن بزيارتها في منزلها، فهى تحيا وثلاثة عشر فرد في مساحة ضيقة وجدران آيلة للسقوط وسطح من الاسبست المهترىء تحرمها خصوصيتها وسط أفراد عائلتها، خجلت من فقرها، ببراءة الأطفال التوّاقين لبيئة آمنة ومسكن مناسب حق يُفترض أنه مكتسب فإذا به هدف مطالب من يُريد الحصول عليه أن يخوض حرباً ضد الفقر والبطالة.
وهناك مريض انتظر دوره طويلاً في مستشفى الشفاء للحصول على موعد لعملية جراحية فإذا به يحصل على موعد بعد عام، يعود قبل أيام في موعده فإذ بنقص الأدوية والمستهلكات الطبية تُعطل العمليات في العديد من الأقسام الطبية بغزة، احتار ينتظر عاماً آخر أم يلجأ إلى مستشفيات القطاع الخاص أو القطاع الأهلي، وكيف له أن يُغطي تكاليف عمليته الجراحية، وهو الذي اقترض مبلغاً من المال وقام ببيع ما تملكه زوجته من سوار ذهب لدفع جزء من أقساط الجامعة لابنته المتميزة في الجامعة، حتى لا يرى الانكسار في عينيها كما شاهده في عيون عشرات الشباب والفتيات ممن وقف المال حائلا دون قدرتهم على التسجيل في الجامعات وحرم المبدعين منهم من مواصلة مسيرتهم التعليمية.
تجاوز الحصار عامه العاشر، وكبر جيل من الأطفال مع هذا الحصار وبات جزء من شخصيتهم بتأثيراته السلبية، حصار يتم تشديد حلقاته في الآونة الأخيرة ويتم الضغط على المواطنين ضمن سياسة عقاب جماعي تمس متطلبات حاجياتهم الأساسية فقد بلغت ساعات قطع الكهرباء 20 ساعة، مقابل 4 ساعات وصل، وامتدت أذرع الحصار لتشمل المياه التي كانت في الأصل تصل المواطنين 4 ساعات كل ثلاثة أيام ناهيك عن تلوث ما نسبته 95% من المياه الجوفية غير الصالحة للشرب.
حصار يجعل المواطن يقف عاجزاً أمام احتياجات أطفاله المتسائلين ببراءة واستنكار عن ذنبهم في عدم تمكنهم من الحصول على ما يطلبون مقارنة بأقرانهم، فمطرقة الفقر التي وصلت نسبته 65%، وسندان البطالة التي وصلت 43% لا تترك فرصة للمواطن بأن يلتقط أنفاسه.
يأتي رمضان هذا العام وقد بلغ تدهور الوضع الإنساني في قطاع غزة ذروته فالاقتصاد الفلسطيني عاجز عن ايجاد فرص عمل، ويعاني من شلل وركود، وسياسات الأطراف الدولية تُجاه غزة تدفع الأوضاع لمزيد من السوء، فقد بلغت نسبة الأسر الفلسطينية المعتمدة على المساعدات المقدمة من المؤسسات الدولية 85 % فيما وصل انعدام الأمن الغذائي حاجز ال 72% لدى الأسر الفلسطينية في قطاع غزة.
وقد قامت السلطة الوطنية الفلسطينية حديثاً بتنفيذ خصم 30% من قيمة رواتب موظفيها في قطاع غزة بالإضافة لقيام البنوك بخصم قيم القروض المستحقة على الموظفين، ومعظمهم من معيلي الأسر الممتدة، الأمر الذي يعني أن غزة فقدت أكثر من 50% من القدرة الشرائية لموظفي السلطة الوطنية الفلسطينية في قطاع غزة.
بالإضافة إلى معاناة 40 ألف موظف تم تعينهم من قبل الحكومة في قطاع غزة يتقاضون 40% من قيمة الراتب منذ سنوات، ويعانون من تراكم الديون ومستحقات المياه والكهرباء والايجار ومتطلبات الصحة والتعليم لأفراد عائلاتهم.
إن الظروف الإنسانية الصعبة التي يمر بها قطاع غزة واكبتها حملة تجفيف منابع التمويل للمؤسسات الإنسانية العاملة في قطاع غزة، فمن إغلاق للمؤسسات في بعض الدول أو السيطرة عليها إلى التضييق على مؤسسات أخرى وإرجاع حوالات مشروعات معتمدة وتأخير اعتماد موازنات مشاريع، بالإضافة إلى الاضطرابات الحاصلة في الإقليم وتعدد الساحات التي تحتاج تدخلات انسانية مثل سوريا واليمن والصومال وبورما كشمير، أفريقيا الوسطى وغيرهم أدى لضعف التركيز على غزة واحتياجاتها، ولم تعد غزة في واجهة وصدارة الاهتمام.
مشاهد البؤس والعجز، وتداخل الأطراف الإقليمية وانعكاسات الانقسام الفلسطيني والحصار المفروض على قطاع غزة وقبل ذلك كله الاحتلال، تستدعي تغييرا ملموسا وجوهريا في سياسة الجميع، ويتطلب تضافر الجهود لوقف التدهور الحاصل فالانفجار في غزة ليس في مصلحة أحد ويهدد استقرار وأمن المنطقة بشكل كامل.
إنه من المؤسف وبدلاً من الحديث عن مشروعات تنموية وتأهيلية أن نضطر للحديث عن ضرورة إغاثة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة خلال شهر رمضان وتوفير احتياجاته من المواد الغذائية الأساسية حيث لن يكون بمقدور آلاف العائلات الفلسطينية في القطاع من شراء احتياجات رمضان من المواد الغذائية.
هنالك حاجة لقيام المؤسسات الإنسانية في قطاع غزة بتوزيع 200 ألف طرد غذائي على العائلات المحتاجة خصوصا في المناطق الحدودية والمهمشة، وعلى الفئات الأكثر ضعفاً في المجتمع، وفي ظل شح التمويل وسياسة تجفيف المنابع فإن المؤسسات مطلوبة ببذل جهد تسويقي أكبر وحثّ المانحين على توجيه تبرعاتهم بأسرع وقت للقيام بعملية توزيع الطرود الغذائية والوجبات الساخنة الرمضانية مع اليوم الأول في رمضان.
كما أن المؤسسات الإنسانية العاملة في قطاع غزة مطالبة بتوحيد الجهود والتنسيق فيما بينها لمنع الازدواجية وإفادة أكبر عدد ممكن وتدارس كيفية تغطية احتياج أكبر عدد من الأسر الفلسطينية وتحقيق العدالة في التوزيع الجغرافي المبني على حالة الفقر والكثافة السكانية في المناطق.
قد تكون الحاجة في سوريا واليمن وغيرهم من الساحات كبيرة، وفلسطين وإن كانت القضية المركزية للأمة إلا أنها ليست الأولى في الاهتمام الذي يتراجع لظروف موضوعية ومقدرة، ولكن الحاجة في قطاع غزة كبيرة وباتت تمسّ وحدة وتماسك المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة، ولها تداعيات سلبية على تماسك العائلة الواحدة وزعزعة ايمان الفرد الفلسطيني في قطاع غزة بالعدالة الدولية وتحقيق العدالة الاجتماعية.
فاجعلوا لغزة نصيب في رمضانكم، ولكم في ذلك أجر تُصيبوه من الله، وتخفيف من العبء الاقتصادي عن كاهل آلاف العائلات الفلسطينية في القطاع.
بقلم/ م. محمد حسنة