أخيراً وبعد مداولاتٍ وجلسات مطولة من النقاشات شارك فيها قادةُ الصف الأول من حركة المقاومة الإسلامية "حماس" وخبراء في اللغة والقانون الدولي وغيره، أطلقت الحركة صاحبة الشعبية الكبيرة والجدل الأكبر وثيقتها السياسية التي حملت عنوان "وثيقة المبادئ والسياسات العامة" في جوٍ شهد متابعة مكثفة من قبل وسائل الإعلام ورجال الرأي والسياسة في أقطارٍ مختلفة، الأمر الذي دلل من جديد بأن هذه الحركة تحظى بمتابعة كبيرة من قبل مختلف الجماهير على الساحة الفلسطينية أو غيرها، وسواءً كانت هذه المتابعة من باب التأييد للحركة أو بهدف الهمز واللمز والانتقاص منها، إلا أنها تؤكد بأن "حماس" رقمٌ صعب في معادلة السياسة الدولية ولكل كلمة تنطق بها وزن ودراسة وتدقيق من قبل صناع القرار الدولي.
حاولت "حماس" في وثيقتها التي أطلقتها الابتعاد عن مواطن الخلاف والنقد، خاصة على الصعيد الدولي الذي ينظر إليها في غالبه كونها مصنفة ضمن قوائم "الإرهاب" الدولي، فتجنبت ذكر مصطلح "الإخوان المسلمين" في وثيقتها لعلها بذلك تعزز حضورها لدى دول ٍ إقليمية ومحيطة، هذا على الرغم من كونها فكرياً تنتمي لمدرستها، كما أنها أظهرت في وثيقتها بأن عدواتها لليهود غير نابعة من كونهم "يهود" وإنما لأنهم من يغتصب ديار الفلسطينيين وأراضيهم منذ عقود من الزمن، وبذلك فهي تتماهى مع الفطرة السليمة للبشر في النزعة الطبيعية لمحاربة أي سارق للبيت أو الأرض بغض النظر عن دينه وعقيدته.
إن هذه الوثيقة تؤكد الحركة من خلالها بأنها بعيدة عن الانقسام وتتحدث بلسان واحد، كما أنها عززت كونها حركة فتية قادرة على التخطيط وإلقاء الأوراق المختلفة على ساحة الحلبة الدولية وليست فقط متلقي للأوراق والمبادرات من الآخرين
جاءت الوثيقة لتخاطب فئة واسعة من الجمهور الفلسطيني قد أثرت عليها حالة التشويه التي مارستها بعض الأحزاب الفلسطينية التي تدرجت من مرحلة الثورية لتحرير الوطن حتى انتهت للدفاع عن التنسيق الأمني والقضاء على أي شكل من أشكال المقاومة ضد الاحتلال، ففيها تأكيد بأن حركة "حماس" لم تتنازل عن المقاومة لتحرير الوطن المحتل، الذي حدوده لا تقتطعها المستوطنات الصهيونية أو المواقع الإسرائيلية، وإنما على كامل التراب الفلسطيني من البحر إلى النهر ومن رأس الناقورة إلى رفح بحدوده المعروفة مع الجوار العربي.
إن هذه الوثيقة تؤكد الحركة من خلالها بأنها بعيدة عن الانقسام وتتحدث بلسان واحد، كما أنها عززت كونها حركة فتية قادرة على التخطيط وإلقاء الأوراق المختلفة على ساحة الحلبة الدولية وليست فقط متلقي للأوراق والمبادرات من الآخرين، فقد عبرت الحركة عن هويتها وتفاعلها مع المتغيرات المختلفة على الساحة المحلية والإقليمية، بل والدولية، وربما هذا ما أزعج قادة الاحتلال الإسرائيلي خشية من إمكانية تأثير الوثيقة على المزاج الدولي، فاستبقوها بالتصريحات المناهضة لها والمحذرة منها، كما جاء على لسان رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" قبل الإعلان عن الوثيقة بقوله: إن حماس تسعى لخداع العالم وتضليله وتربي الجيل على إزالة ( إسرائيل) من خلال وثيقتها السياسية.
ولأن الكمال لله تعالى وحده، فإن هذه الوثيقة التي هي من فعل البشر سيعتريها النقص والخلل وإن كانت بنودها الواحد وأربعين شاملة لكل المسائل المتعلقة بالحركة الأكبر فلسطينياً من قريبٍ أو بعيد، غير أن الآثار المتعلقة بها لا يمكن قياسها في الوقت الراهن، وسيكون الزمن كفيلاً بالإجابة عن سؤالنا: هل ستفتح وثيقة حماس الأقفال المغلقة؟ ورغم أن الزمن سيدفع مختلف الأطراف لدراسة الوثيقة وتجهيز خططه للتعامل معها.
إلا أننا يمكن أن نستنبط شكل الواقع بعد إصدار الوثيقة:
1- على الصعيد المحلي ستؤكد الوثيقة للجمهور الفلسطيني بأن "حماس" هي الأقدر في الوقت الراهن على قيادة المشروع الوطني، وذلك بعد حالة التراجع والانحدار التي تعتري حركة "فتح" والدرجة التي وصلت إليها من وضع يدها في يد الاحتلال الإسرائيلي على حساب الثوابت والمصالح الفلسطينية، بل إن الوثيقة ستُزيل الكثير من الغموض بشأن الحركة من قبل جمهور واسع صدق تصريحات كيدية قذفت "حماس" بها التنظيمات المناوئة لها على الساحة الفلسطينية وبخاصة من غير الإسلاميين.
2- أما الواقع العربي فأعتقد أنه سينقسم في التعاطي مع الوثيقة، ففي مسألة التيارات التي تنضوي تحت لواء جماعة الإخوان المسلمين سيزداد التأييد للحركة على اعتبار أنها الجناح الوحيد للجماعة الذي لا يزال يملك زمام المبادرة والفعل، أما باقي التيارات الإسلامية من سلفيين وغيرهم فأعتقد أن قناعتهم ستزداد بعد هذه الرؤية المعمقة من قبل "حماس" على الخارطة السياسية الدولية. باختصار فالشعوب سترفع من قناعتها بأسلوب الحركة الإسلامية داخل فلسطين في الحفاظ على الثوابت والمقدرات الوطنية، بينما على الصعيد الرسمي فأعتقد أن التحرك سيكون بشكلٍ حذر جداً، خاصة في ظل رضوخ العديد من الأنظمة العربية الرسمية للإملاءات الخارجية، غير أن المزاج الشعبي العربي إن ارتفعت أمواجه فقد يدفع العديد من الحكومات العربية لإعادة تطبيع علاقاتها مع "حماس" وإزالة الأقفال التي وضعتها أمام الحركة، خاصة في علاقاتها مع الشعوب.
إن إقدام حركة "حماس" على إطلاق هذه الوثيقة يؤكدُ بأنها حركة شابة حيوية ومتجددة تتطور في فكرها السياسي تماماً كما ترتقي وتتقدم في مساراتها العسكرية والأمنية وغيرها، كما أن الوثيقة جاءت لتؤكد مرةً أخرى بأن هذه الحركة تقدمُ نموذجاً فريداً في التطور والانفتاح
3- على الصعيد الغربي، فالوضع قد يتغير لدى الشعوب ومؤسسات المجتمع المدني، الذين سينظرون بعين احترام أكثر من الماضي بالنسبة لحركة "حماس" وسيبحثون لها عن خانة تختلف عن تلك التي تتواجد فيها العديد من التنظيمات التي تتبنى الفكر المتطرف، وهي خطوات إن قامت بها تلك المؤسسات فستكون إما دافعاً لحكوماتها نحو تطبيع العلاقة مع "حماس" وإن كان بشكلٍ غير معلن، أو إهانة تلك الحكومات أمام تصرفات شعوبهم الرافضة للاحتلال الإسرائيلي على أرض فلسطين.
4- أما المزاج الإسرائيلي، فواضح بأن الوثيقة أوقعته في حرج شديد، وباتت الكرة في ملعبه الذي استقر لاعبوا فريقه إلى ما وراء خط الدفاع بعد عدة ضربات سددتها حركة "حماس" إلى مرمى رجال الساسة الإسرائيليين، وسيعمل الاحتلال بوسائل إعلامه وخبرائه على محاولة تشويه الوثيقة لدى الجمهور الإسرائيلي الذي بات يتلقى في الكثير من الأوقات لرواية المقاومة الفلسطينية كمسلماتٍ لا نقاش فيها في ظل حالة الكذب والخداع التي تمارسها قيادة الاحتلال الإسرائيلي.
لقد أتقنت "حماس" بكل ما تحمل الكلمة من معنى فن المناورة وصناعة الحدث، واختارت التوقيت المناسب لإطلاق الوثيقة، فأن يكون الإعلان في وقتٍ تصل العلاقة بينها وبين رئيس السلطة محمود عباس لأسوأ درجاتها، وقبل يومٍ فقط على لقائه الرئيس الأمريكي "دونالد ترمب" وما يمكن أن يُقدم عليه من تنازلات، وفي ظل الحديث عن "صفقة القرن" التي تسعى الإدارة الأمريكية لتطبيقها، فهذا يعني باختصار أن المبادرة جاءت لتخلط الأوراق من جديد أمام صُناع القرار الكبار، ودفعت الجميع للتوقف في سبيل دراسة كيفية وصول الحركة إلى الطاولة المستديرة التي يجلس عليها أولئك الكبار من خلال إطلاق هذه الوثيقة.
أخيراً، فإن إقدام حركة "حماس" على إطلاق هذه الوثيقة يؤكدُ بأنها حركة شابة حيوية ومتجددة تتطور في فكرها السياسي تماماً كما ترتقي وتتقدم في مساراتها العسكرية والأمنية وغيرها، كما أن الوثيقة جاءت لتؤكد مرةً أخرى بأن هذه الحركة تقدمُ نموذجاً فريداً في التطور والانفتاح على الآخر دون إخلالٍ في أصل المشروع الذي تسيرُ في طريقه.
بقلم/ أيمن دلول