ليس مستغرباً أن تلقى " وثيقة المبادئ و السياسات العامة " التي أعلنتها حركة حماس قبل أيام من العاصمة القطرية الدوحة ، هذا الاهتمام الواسع من قبل الكثير من الأوساط وعلى مختلفها ، كيف لا ، وحركة بحجم حماس وثقلها ووزنها ليس في الساحة الفلسطينية وحسب ، فهي من جانب حركة تتقدم صفوف قوى المقاومة الفلسطينية ، ومن جانب أخر ارتباطها العضوي والبنيوي بحركة الإخوان المسلمين ذات الانتشار الإقليمي والدولي الواسع . لذلك كان الجميع ينتظر ومنذ فترة طويلة الإعلان عن تلك الوثيقة بحيث لم تترك قيادة حركة حماس شيء يخطر على بال محازبيها ومناصريها ، مؤيديها وخصومها ، وحتى أعدائها ، إلاّ وأجابت عنه من منطوقها ومفهومها استناداً لتطورات الأحداث وتسارعها في المنطقة ، بل والعالم .
قبل التطرق لأهم من جاء في تلك الوثيقة المثيرة للجدل ، من عناوين ونقاط ، وقبلها المقدمات التي أوصلت الحركة إلى تبني تلك الوثيقة ، وتطابق إطلاقها مع مواقيت في مختلف الاتجاهات ، والفلسطينية في أولوياتها . لابد من التأكيد على أحقية أي فصيل أو حزب أو حركة أن يجرون المراجعات النقدية لما يتبنونه من فكر أو برامج سياسية ، والهدف هو التجديد بعد معالجة أسباب الإخفاقات والبناء على النجاحات . ولا يحق لأحد أن يُعيب على حماس أو غيرها من القوى والفصائل الفلسطينية القيام بتلك المراجعات لاستخلاص العبر والدروس ، إلاّ إذا تعارضت مع الثوابت أوالتطلعات ، وهذا ما اشتملت عليه المقالات والتحيلات والأراء والمواقف التي تعرضت لوثيقة حماس ، سواء بالسلب والنقد والذم والتشكيك حد الإتهام بالتخلي . أو بالإيجاب والثناء والتشجيع والمدح حد التبني . والتي انطلقت من خلفية القراءات والرؤى المختلفة ، وجميعهم بموضوعية على حق ، لأنه ليس بمقدورنا دفع المعترض أن يسقط اعتراضاته وهو محق من وجهة نظره ، ولا دفع المؤيد للتخلي عن تأييده ، ويجد نفسه محق من وجهة نظره . وهذا من الجائز أن ينطبق على من هم داخل حركة حماس نفسها . الدكتور صلاح البردويل القيادي في حركة حماس ، كان قد صرح : " أن الوثيقة التي تتكون من 43 بنداً لا تتضمن ما رشح عبر وسائل الإعلام عن قبول حماس بدولة فلسطينية على حدود 1967 " .
الوثيقة التي احتوت على 12 عنواناً ومحوراً ، و42 بند ونقطة . على أهمية تلك المحاور والبنود ، أرى أن قبول حركة حماس بدولة فلسطينية في حدود العام 1967 وعاصمتها القدس ، ومن دون الاعتراف ب" إسرائيل " ؟؟ !! ، هو الأبرز في وثيقة المبادئ والسياسات العامة التي أعلن عنها السيد خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في مؤتمره الصحفي من أحد فنادق الدوحة ، وهو ما أعاب عليه البعض أنه في الشكل ليس مقبولاً ، وأجاز البعض الآخر أن يقارن بين إعلان ما سمي بوثيقة الاستقلال التي شارك في صياغتها النهائية كل من المفكر ادوارد سعيد والشاعر محمود درويش في الجزائر عام 1988 بلد المليون شهيد ، حيث اشتعل يومها المجلس الوطني تصفيقاً وأغاني وطنية ، ويا ليته ما كان ذاك التصفيق ولا تلك الأغاني والأهازيج الوطنية على استقلال وهمي ولا زال على الورق حتى يومنا هذا . وبين الإعلان عن وثيقة حماس ، التي علينا ألاّ نحاكم ولو بالشكل أنها أعلنت من فندق ، بقدر ما نحاكم أن الفندق على أرض قطر المنخرطة في مشاريع تفتيت وتقسيم المنطقة كرمى لعيون الولايات المتحدة ، وصديقتها " إسرائيل " ، ولربما حليفتها أو أختها غير الشقيقة .
أن تقر حماس قبولها بدولة فلسطينية في حدود العام 1967 ، أمر ليس بجديد ولا يجب أن يشكل مفاجئة سارة للبعض ، ومفاجئة غير سارة للبعض الآخر . فالنتائج محكومة على الدوام بمقدمات قد بدأتها الحركة منذ زمن ليس بقصير وأقله ما أقرّ به السيد مشعل أن الوثيقة نتاج لنقاشات وحوارات قد بدأت على إعدادها منذ أربع سنوات ، وعملية الصياغة بدأت منذ عامين ، وقبل الصياغة بشكلها النهائي تم عرضها على عدد من رجال القانون الدولي استمر النقاش تسع ساعات لنأخذ بملاحظاتهم . فمنذ أن خاضت حماس انتخابات المجلس التشريعي ، وهو أحد إفرازات اتفاقات " أوسلو " عام 1993 ، بدأت حركة حماس تٌعد العدة للتأقلم مع المستجدات والتطورات السياسية في المنطقة ، ومن ثم جاءت موافقتها على وثيقة الوفاق الوطني التي صاغتها قيادة الحركة الأسيرة في أيار 2006 ، وتحديداً في البند المتعلق بإقامة دولة مستقلة على حدود العام 1967 . ولكن تلك الوثيقة لم ترى النور في حينه بسبب الانقسام الذي انفجر بين حماس وفتح بعد سيطرة الأولى على قطاع غزة في حزيران عام 2007 . ويأتي انفتاح حركة حماس على الرئيس الأمريكي جيمي كارتر الأسبق واستقباله والاجتماع إليه وهو أحد المراقبين لانتخابات المجلس التشريعي عام 2006 . ومن ثم لقاءات رئيس مكتبها السياسي السيد خالد مشعل مع رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير في الدوحة وزيارته لقطاع غزة . وبلير المعروف بتأييده المطلق ل" إسرائيل " ، وبالون الإختبار عند صديقه نتنياهو ، وصاحب معادلة " الأمن مقابل الاقتصاد " بدل " الأرض مقابل السلام " . ليأتي تخندق الحركة مع دول من مثل قطر وتركيا وهما المنخرطتين عملياً ومادياً في تفتيت وتقسيم دول المنطقة ، وتقيمان أوثق علاقات التطبيع ، وعلاقات التبادل التجاري والعسكري والأمني مع الكيان " الإسرائيلي " ، عدو الشعب الفلسطيني وقواه بما فيها حركة حماس . هذا التخندق قد جعل حماس أكثر ليناً في مواقفها بعد ممارسة الضغوط عليها ، وهذا منطقي وطبيعي لأن الجغرافية السياسية عامل حاسم في التأثير على مواقف من يقف على أرضيتها ، وما أقر به وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو عن أن بلاده تمارس ضغوطاً على حماس من أجل الاعتراف ب" إسرائيل " ، يأتي متطابق مع تأثيرات تلك الجغرافية السياسية ، هذا من جانب ، ومن جانب أخر قد أفلح في أن تخطو حماس نحو القبول بدولة على حدود عام 1967 ، علّ هذا القبول يقابله قبول للحركة عند الأوساط الدولية المؤثرة كالولايات المتحدة وأوربا الغربية ، الذي لن يهنأ لها بال إلاّ بعد أن تدفع بحماس نحو منزلق خطير بالمعنى الوطني والسياسي ، ولو خطوة خطوة على طريقة استدراج منظمة التحرير لتجد نفسها في مستنقع اتفاقات " أوسلو " ومحلقاتها ، التي رأت فيها حركة حماس في وثيقتها الجديدة " أنّ تلك الاتفاقات وملحقاتها تخالف قواعد القانون الدولي ، من حيث أنها رتبت التزامات تخالف حقوق الشعب الفلسطيني غير قابلة للصرف " ؟؟ !! .
ومن ثم هل قادرة حماس أن تقنع نفسها قبل جموع الشعب الفلسطيني ، أنها قادرة على تحقيق قيام الدولة الفلسطينية بحدود عام 1967 من دون اعتراف مقابل ب" إسرائيل " ؟ . وإذا افترضنا ذلك ، هل تركيا وقطر على وجه الخصوص ستوافقان على دولة فلسطينية من دون أن تمارسان دالتهما ومن ثم ضغوطهما على حماس للاعتراف بدولة الكيان ؟ . وهل المجتمع الدولي بدوله النافذة ، وفي مقدمتهم الاتحاد الروسي قبل الأمريكي والأوربي ، هل سيوافق على قيام تلك الدولة العتيدة قبل أن يتم الاعتراف بالكيان " الإسرائيلي " ؟ ، وفي المقابل ، هل ستوافق دول الرباعية العربية مصر والسعودية والأردن والإمارات ومعها الدول الموافقة على ما يسمى ب" مشروع السلام العربي " ، على قيام تلك الدولة من دون أن يكون الاعتراف متبادلاً ؟ ، هذا في الأساس إذا وافقت " إسرائيل " على ذلك ، أو أبقت على أساس مادي لقيام تلك الدولة بعد عمليات التهويد والاستيطان الواسعة ، ومصادرة الأراضي الغير مسبوقة . وعلى فرض أخر ، هل ستوافق كل تلك الأطراف الإقليمية والدولية على منح دولة فلسطينية بحدود 1967 للشعب الفلسطيني وعاصمتها القدس ، من دون أن تتحقق المتطلبات الأمنية للكيان ، ومدخلها نزع سلاح المقاومة أولاً وثانياً وعاشراً .
وأختم مستعيراً ما قاله أحد الإعلاميين المقرّبين جداً من حركة حماس في معرض تعليقه على وثيقتها: " لا مقارنة بين من يعترف بدولة العدو، وبين من لا يعترف، لكن المسار واحد " .
رامز مصطفى
كاتب وباحث سياسي