سأبدأ بتذكير الناس، أن السياسية منذ نشأة المجتمعات حتّى اليوم هي انعكاس ناتج عن موازين قوى داخلية وخارجية، المتصارعون يراكمون نقاط قوّتهم وكل طرف يستفيد من نقاط ضعف الطرف الآخر، بمعنى أنها ليست أمنيات ولا هي عمل أخلاقي في كثير من الأحيان، التاريخ أخبرنا أنها من أكثر الصراعات دموية، راح ضحيتها ملايين البشر وجرى تبرير موتهم بشكل أو بآخر، المنتصرون كتبوا التاريخ بطريقتهم، والمهزومون كتبوا الشعر والرواية، وصفوا فيها مآثر وبطولات الضحايا، حفروا الدموع على وجنتي تمثال ينتصب شامخاً في مداخل الطرق أو يحمل سيفاً فوق صهوة جواد تسمّر في ميدان معركة ذبح فيها الشعب.
منذ أسابيع قام عباس بجملة من الإجراءات الخطيرة بحق مليوني فلسطيني يقطن في سجن غزة، وما زال يلوح بعقوبات جماعية ستطال كافة مرافق ما تبقّى من حياة، كان العنوان الأوّل لتبرير الإجراءات أو "المجزرة" كما وصفها نشاط السياسة ومواقع التواصل الاجتماعي، أن موازنة السلطة تعاني من أزمة مالية، العنوان الثاني الذي ساقه ممثلوا السلطة، أن الإتحاد الأوروبي قام بتقليص على موازنة الرواتب المخصصة لقطاع غزة، والعنوان الثالث الذي استقر أخيراً، هو نيّة عبّاس علي إجبار حركة حماس على السير في مصالحة إجبارية تبدأ بحل الإدارة التي أعلنت عنها مؤخراً لقطاع غزة، وتمكّن حكومة" الوفاق الوطني" من ممارسة مهامها في قطاع غزة، وانتهت إلى آخر إعلانات عبّاس من واشنطن بعد لقائه مع عدد من السفراء العرب، توعد خلالها حماس بإجراءات "غير مسبوقة" !
أثناء هذه الفزعة العباسية قام خالد مشعل بالإعلان من الدوحة عن وثيقة سياسية جديدة تبنتها حركة حماس، تعترف فيها بدولة فلسطينية في حدود الرابع من حزيران 1967، وقدمتها للعالم كبادرة حسن نيّة لتكشف عن محاسنها ومرونتها في التعاطي مع القضايا السياسية، هي تقدم أوراق اعتمادها للإدارة الأمريكية وإسرائيل لتبدأ عملية سياسية من حيث انتهت حركة فتح، وزّعت الوثيقة كأنها النصر الرابع والفتح المبين لقلب الرئيس الأمريكي ترامب، تجاهلت أزمة منظمة التحرير بعد فشل عملية التسوية السياسية وألغام اتفاق أوسلو، وجدوى المفاوضات في ظل فشل حلّ الدولتين، وقبل كل ذلك أسقطت من حساباتها الثمن المفترض أن تحصل عليه مقابل التفريط ب 78% من أرض الوقف التاريخية التي كانت تتحدث عنها، هل كل هذا الكرم الحمساوي مقابل رضى الإدارة الأمريكية وإسرائيل أم أن وراء الأكمة ما ورائها ؟
ما يجري جاء في ظل معركة ساخنة يخوضها الأسرى الفلسطينيون داخل معتقلات الإحتلال، قد تفضى إلى مواجهة شاملة مع الإحتلال الإسرائيلي نظراً لحساسية قضية الأسرى في وجدان الشعب الفلسطيني، تفاعل محلي ودولي مع إضراب الأسرى عن الطعام، الموضوع الفلسطيني يضرب قدمه بقوة في مختلف ميادين وعواصم العالم، يتصاعد بفعل معركة الأمعاء الخاوية، أقل نتائجه ستسفر عن تحطم إرادة السجّان الإسرائيلي، وأهمها تكمن في إعادة بعث للقضية الوطنية بمجملها، لقد عاد العلم الفلسطيني يرفرف في كل مكان، والشعوب تسأل ما الذي يجرى هناك، ونحن نقول هناك احتلال يمارس الجريمة بحق الأسرى، وبحق الشعب الفلسطيني والأرض الفلسطينية، بعد أن تحول الموضوع الفلسطيني إلى مسألة هامشية على أجندة الحكومات العالمية.
استهتار حماس وعباس بالتضحيات التي قدمها الشعب وما زال، عجزهم عن تحقيق الوحدة الوطنية، شعورهم أن زمام الأمور قد تفلت من أيديهم في أيّ لحظة، دفعهم للهرولة نحو وهم الموقف الأمريكي والتغير الذي قد يطرأ عليه، تجاهلا تجربة طويلة وفاشلة من الرهان على الموقف الأمريكي، ضربا بعرض الحائط الموقف الشعبي والنخبوي من العلاقة مع الإدارة الأمريكية، وبطشا بالشعب شرّ بطشة، في قوت أبنائه وحرياتهم العامة والخاصة، اعتديا على مختلف الحقوق وأبسطها، وحوّلا المجتمع الفلسطينية إلى بيئة خصبة لكل أنواع الجريمة، توتر لم يسبق أن شهد مثله الشعب الفلسطيني، داسا على كل القيم الوطنية من أجل سراب الحكم والفوز بقلب الأمريكي ترامب، مواقف لا علاقة لها بالسياسة، هروب من مواجهة الفشل وأسئلة المستقبل، ويحاولا مجدداً تضليل الشعب لثنيه عن حراك ثوري لن تقف حدوده على تغيير النظام السياسي، بل سيكون المتضرر الرئيسي منه الإحتلال الإسرائيلي الذي يرى في عباس وحماس نموذجان منضبطان في تلبية الإملاءات الأمنية والبطش في المجتمع الفلسطيني.
في ظل هذه الفوضى والاستهتار من القيادة الفلسطينية المتنفذة، أتساءل كغيري من المراقبين، ما الذي تغير في موازين القوى لكي ترضى الإدارة الأمريكية عن الشعب الفلسطيني وتنحاز إلى حقوقه، وهل الواقع الفلسطيني الراهن على وهنه، يؤهل أي حكومة في العالم لكي تهتم بالمسألة الفلسطينية وتعمل على إنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي باتفاق تاريخي يستجيب لبرنامج الحد الأدنى الذي تبنته الحركة الوطنية الفلسطينية ولاحقاً حركة حماس، وهل المجتمع الفلسطيني الآن جاهز لمفاوضات مباشرة مع الإحتلال أو برعاية دولية تمكنه من فرض تسوية مستندة إلى برنامج الإجماع الوطني، أم أن الحاجة أكثر لمراجعة فلسطينية شاملة على أنقاض مرحلة غابرة وصعبة، عقدين وأكثر من الخداع والجري وراء السراب، خلالها ابتعد الفلسطينيين أكثر عن هدف التحرر والاستقلال، كيف تغامر حماس بموقفها التاريخي دون أن يتراجع الإحتلال في سياساته خطوة واحدة، بل يصعّد من حملته الاستيطانية بشكل غير مسبوق، ويمارس مختلف صنوف الجرائم اليومية، ويفرض واقعاً لا يريد عباس أو حماس مشاهدته، حيث سقط خيار حلّ الدولتين وأخذ في طريق السقوط معه اتفاق أوسلو، ما تبقى منه التزامات أمنية فقط، حوّلت الحكومتين في الضفة وغزة إلى جلاد يضيف عذاب فوق عذاب يتجرعه الشعب الفلسطيني بكل مرارة وأسى، ويضرب فكرة الصمود والمواجهة اللتان تسلح بهما الشعب على مدار تاريخ قضيته، وهل ثبت بالملموس أن الإدارة الأمريكية الجديدة قد أنهت تحالفها مع منظمات الإسلام السياسي في العالم العربي بما فيه فلسطين، وان كان ذلك صحيحاً فهل ستلزم اسرائيل ذلك، بمعنى آخر هل ستوافق اسرائيل على إنهاء حركة حماس وإعادة توحيد النظام السياسي في قبضة عباس؟
قبل أن تعلن حماس وثيقتها، وقبل أن يستأنف عباس مشواره صوب البيت الأبيض، كان هناك استحقاق وطني لم ينفذاه، ويبدوا أنهما لن يفعلا ذلك، الوحدة الوطنية والعودة إلى الشعب، المراجعة الشاملة وتبنى خطة سياسية جديدة ترتكز على المشاركة الشعبية، تفعيل كل عناصر القوة الفلسطينية التي تجبر ترامب وغيره على طلب اللقاء مع قيادة الشعب الفلسطيني والتفكير في حلّ عادل من موقع القوة ولا تجعل منه ملجأ للهارب من إخفاق إلى هزيمة إلى حماية الرئيس الأمريكي وما فرضه من املاءات أمنية واقتصادية تلحق الأذى بمليوني فلسطيني ذاقوا ألواناً من العذاب والتشرد بفعل الحروب المتلاحقة والاقتصاد المدمر والفقر والحرمان السياسات الاقتصادية العنصرية على يد حكومة أطلقت على نفسها حكومة "وفاق وطني".
السباق نحو قلب ترامب لن يجد نفعاً في السياسة، بل سيدخل الفلسطينيين في أزمة جديدة، قد تكون أكثر دموية وخطورة، حماس لن تحقق ما فشل مفاوضوا السلطة في تحقيقه، وعباس لن ينهي حكم حركة حماس لقطاع غزة من خلال حصار مليوني فلسطيني لا ذنب لهم في كل ما يجري، والمجتمع الدولي لن يصمت طويلاً عن كارثة معيشية ستعصف بالشعب الفلسطيني في غزة، سيذهب ضحيتها الضعفاء والفئات الأكثر هشاشة اقتصادية من الفلسطينيين، كما قلت سابقاً أن الرئيس أوباما ليس بابا نويل يقدم هدايا العيد، ترامب أيضاً لا قلب له ليظفر به عباس أو حركة حماس، للسياسة قواعدها المختلفة عن قواعد الغرام وتجارة الأوهام.
بقلم: محمد أبو مهادي
[email protected]