في 31 كانون الثاني/يناير 2009 قال المبعوث الدولي للجنة الرباعية طوني بلير (رئيس الوزراء البريطاني السابق) في مقابلة مع جريدة «التايمز» إن أي عملية سلام في الشرق الأوسط يجب أن تشارك فيها حركة حماس ويجب أن تكون جزءاً منها. بعد تلك المقابلة بست سنوات، وتحديداً في منتصف العام 2015 اجتمع بلير مع رئيس المكتب السياسي للحركة وقتها خالد مشعل في لقاءين أو ثلاثة سراً، وبعدها بعامين بالضبط، أي في أول أيار/مايو 2017 أعلنت حركة حماس وثيقتها السياسية البديلة للميثاق والتي لا تتضمن أي جديد سوى القبول بدولة على الأراضي المحتلة عام 1967!
في المؤتمر الصحافي الذي عقده مشعل للاعلان عن الوثيقة السياسية الجديدة كشف بشكل واضح وصريح أن كتابة هذه الوثيقة بدأ قبل عامين، وأن الوثيقة لم تكن وليدة لحظتها ولم يتم إنجازها في الأيام الأخيرة للقيادة السابقة، وهو ما يعني أن لقاءات مشعل السرية مع بلير كانت بكل تأكيد متزامنة مع بدء كتابة الوثيقة، وهو ما يفتح الباب أمام العديد من الأسئلة عما إذا كانت ثمة علاقة بين اللقاءات وما جرى فيها وبين هذه الوثيقة؟!
الإطار الزمني للأحداث يبدو أمامنا بالصورة التالية:
- 31 كانون الثاني/يناير 2009: بلير يؤكد أن لا اتفاق سلام بدون حركة حماس.
- 19 آب/أغسطس 2015: جريدة التايمز البريطانية تؤكد أن بلير التقى مشعل مرتين سراً في إطار وساطة بين الحركة واسرائيل.
- بعدها بأيام قالت صحيفة «هآرتس» العبرية أن بلير التقى نتنياهو قبل أن يلتقي مع مشعل لأول مرة.
- 1 أيار/مايو 2017: حركة حماس تبنت وثيقة ملزمة وافقت بموجبها على دولة فلسطينية على أراضي الـ67.
هذه المعطيات ليست دليلاً كافياً على أن ثمة ارتباطاً بين اللقاءات مع بلير وبين الوثيقة التي تقبل بدولة على حدود الرابع من حزيران/يونيو، لكن المشكلة الأساس هنا هو أن حركة حماس لم تجب على أهم سؤالين حول الوثيقة: الأول هو ما سر توقيت صدورها أو توقيت البدء بكتابتها أو توقيت البدء بنقاشها أو توقيت طرح فكرتها؟
أما السؤال الثاني فهو لماذا تريد حركة حماس تدوين ما تقول إنه ليس جديداً، وما تقول إنه ممارسة سياسية تقوم بها منذ 15 عاماً؟ إذ ما دامت الوثيقة لا تتضمن جديداً فلماذا صدرت؟ ولماذا استنزفت الحركة كل هذا الوقت في كتاب «لزوم ما لا يلزم»؟!
واقع الحال هو أنَّ الوثيقة تتضمن جديداً وإلا لما صدرت أصلاً، وواقع الحيال أن للوثيقة سبباً لأن كل شيء في العالم يحدث بسبب ولتوقيته مغزى ومعنى ومضمون، ونظرية الصدفة إن كان من الممكن أن تنطبق على بعض مناحي الحياة فانها بكل تأكيد لا يمكن أن تنطبق على السياسة.
بالنسبة لكثير من الفلسطينيين فإن القبول بدولة على أراضي الـ67 لا مشكلة بذلك، بل إن اسرائيل هي التي ترفض هذه الصيغة وليس الفلسطينيون، وكذلك فان الموافقة على أي «صيغة توافقية وطنية» – كما جاء في المادة 20 من وثيقة حماس – يمثل رسالة إيجابية يجب أن تُرفع لها القبعات، حيث أنها رسالة واضحة للداخل والخارج بأن الحركة تمد يدها للمصالحة والوحدة الوطنية والوفاق الداخلي، ولا غبار على ذلك.. لكن ما يخشاه الكثير في المقابل أن تكون الوثيقة السياسية استجابة لمطلب دولي أو إقليمي من أجل التفاوض – بشكل مباشر أو غير مباشر- مع اسرائيل، وبالتالي المضي قدماً في حل منفرد على غرار الحل الذي توصلت له المنظمة سراً مع اسرائيل في العام 1993 (اتفاقية أوسلو).
ليس عيباً ولا مشكلة أن تكون وثيقة المبادئ والسياسات حصيلة مراجعة شاملة أجرتها الحركة، وليس عيباً تصويب المسار ولا الاستجابة لمستجدات الواقع والمعطيات الدولية، فالثوابت غير واردة في السياسة، والمبادئ مكانها المساجد وليس ميادين السياسة، والسياسة في أبسط تعريفاتها هي «فن الممكن».. كل ذلك ليس عيباً لكن العيب والمشكلة هو أن نستجيب لاملاءات خارجية بأغلفة وطنية، أو أن نسير بمسارات منفردة تُذكرنا بحديث النبي الكريم (عليك بالجماعة فإنما يأكلُ الذئبُ من الغنم القاصية)، كما أن العيب كل العيب أن نجرب اليوم ما جربه الآخرون قبل ربع قرن وفشلوا به، وأن نقبل بنصف الحق بينما يرفض الاحتلال أن يعطينا ولو ربعه.
التوقيت والأسباب هما جانب يسير من الغموض الذي يكتنف وثيقة حماس المفاجئة، لكن ثمة الكثير من الملاحظات على مضمونها ربما يتسع لها المقام في مقالات أخرى ومناسبات أخرى، أما الرسالة الأهم التي يتوجب على حماس أن تفهمها وتقرأها فهي أن عليها التحلي بمزيد من الشفافية والافصاح، وعليها إطلاع الشعب الفلسطيني على ما تقوم به، ابتداءً من اللقاءات مع توني بلير وليس انتهاءً بالوثيقة السياسية والانتخابات الداخلية، ذلك أن الحركة لم تعد فصيلاً عابراً ولا رقماً هامشياً في الحياة السياسية الفلسطينية، إنها الحركة التي حصدت أصوات أغلب الفلسطينيين في آخر انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة، وهو ما يعني أنها تحمل أمانة أصوات الملايين من أبناء هذا الشعب في الداخل والخارج.
على حركة حماس أن تُفصح علناً عن أسباب إصدار الوثيقة، وما الجديد فيها، ولماذا تم إعلانها على عجل قبل أيام معدودة من انتهاء ولاية المكتب السياسي وانتقال قيادة الحركة الى غزة، وعليها أن تفتح حواراً وطنياً شاملاً يُشارك فيه الجميع إن كانت تريد التفاوض مع اسرائيل، أو تريد تفويض أحد بالتفاوض، أو تسعى لاتفاق على أراضي الـ67.
محمد عايش
كاتب فلسطيني
