انشغل كتّاب وسياسيون بالوثيقة السياسية التي أعلنها السيد خالد مشعل، وهو يتأهب لمغادرة موقعه كرئيس للمكتب السياسي للحركة.
كان الترويج المسبق للوثيقة أحد أسباب انتظارها، والتشوق لمعرفة الجديد فيها، وفي حالات كثيرة تفسد المبالغة في التشويق الغرض الأساسي، فيكتشف المنتظرون أن الجديد غير ظاهر، وأن القديم تم عرضه بلغة أكثر مرونة من اللغة الدارجة.
والجديد في السياسة غير الجديد في قراءة التاريخ، كما أن الجديد الفعال في السياسة، هو من يغير مواقف الخصوم، وعلى هذا الصعيد لم يتغير شيء يذكر، فنتنياهو الذي يطوق غزة وحماس بالنار، ويحصي عدد السعرات الحرارية التي يسمح لها بالمرور من معابره رد على رسالة حماس بأسلوب صبياني مألوف عنه، فقد مزق الوثيقة أمام الكاميرات، أما الأميركيون والأوروبيون فلا يكترثون باللغة قدر اكتراثهم بانسجام السياسة مع شروطهم، وشروطهم المعروضة على حماس منذ دخلت معترك السياسة معروفة ومحفوظة عن ظهر قلب.
الأميركيون والأوروبيون ومن لفّ لفهم، لعبوا لعبة الشروط مع ياسر عرفات، وحين كان يقبلها بالقطعة كانوا يقولون له بصريح العبارة "هذا لا يكفي". فظل يناور ويتحايل إلى أن وصل به الأمر إلى مصافحة رابين، وتوقيع وثيقة الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، ضمن حدود آمنة معترف بها، مقابل اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير ممثلاً وحيداً للفلسطينيين.
وسواء وصفنا الشروط الأميركية والأوروبية التي ترتدي لباساً دولياً بالمؤلمة أو المجحفة أو المعقولة أو الواعدة، إلا أنها لا تحتمل إسقاط أي بند منها.
موضوعياً فإن المقارنات في السياسة مفيدة وتنطوي في كثير من الأحيان على حكمة، وهذا ما تحتاجه حماس إذا ما كانت توجه رسالتها للأعداء وليس للذات والأصدقاء. بلغة البريد حين لا تستقبل رسالة تعاد إلى مرسلها، وغالباً من أجل تعديل العنوان، أما في لغة السياسة فتعاد الرسالة إلى مرسلها لتعديل المضمون، وهنا تقع المفارقة المعضلة، فلا حماس مستعدة لتعديل المضمون، ولا الخصوم مستعدون للاكتفاء بالعنوان.
أقول مفارقة معضلة، دفعت فيها حماس ثمناً دون أن تقبض شيئاً، فالتوقيت سواء كان مدروساً أم صدفة، جاء في وقت غير ملائم لحركة تعتمد على النضال المسلح، وتظهر في أحلك الأوقات كما لو أنها وضعت رجلاً صريحة على طريق التسويات الطويل والمليء بالمطبات والحفر، وهذه خسارة، ثم إن الحركة الإسلامية التي أعلنت انفصالها عن الإخوان المسلمين مع احتفاظها بالجذور الفكرية الأعمق التي تربطها بهم، ثبتت إخوانيتها العميقة، وعزلت قشورها السياسية، وهذا ما لن يقدم ولن يؤخر في تقويم الحركة عند الخصوم والأصدقاء كذلك.
وتزامنت مع زيارة محمود عباس إلى البيت الأبيض، المرفوضة والمدانة من قبل حماس، التي قام رئيس مكتبها السياسي السابق بتوجيه رسالة للرئيس الأميركي عبر الـسي إن إن، لم يقل صراحة خذونا بدلاء عن عباس، ولكن هكذا فهمت الرسالة.
أصغيت لمطولة السيد خالد مشعل، التي تحدث فيها عن الاستعدادات المتقنة لإنتاج الوثيقة بأفضل وجه وعلى أكمل صورة، من صياغة الكلمات إلى تحديد المضامين إلى الترجمة والإشادة المسهبة بها، إلى إسهامات خبراء القانون الدولي الذين تمت الاستعانة بهم كي لا يكون في الوثيقة ما يخالف أحكام هذا القانون، كل هذا جيد وضروري أن يُفعل في أمر كهذا، غير أن ما نسي فعله أمران آمل أن ينتبه إليهما الإخوة في حماس أثناء إعداد الرسالة التالية..
الأول: مشاورة "فتح" في أمر الاعتدال وكيفية أدائه خطوة وراء خطوة، وقراءة المآلات لاكتشاف الطريق والخلاصات.
والثاني: سؤال من سترسل لهم الرسالة عن عنوانهم الصحيح، والتأكد من أنها ستصل وتحدث التغيير المأمول. لقد فازت حماس رغم كل خساراتها بمأثرة المحاولة، فلنشجعها على أن تكون الأمور أفضل في المرة التالية، فمن اختار درب الاعتدال عليه أن يعرف أنه أكثر صعوبة من خيار التشدد.
نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني