يطل التاريخ على الفلسطيني بقامته الباسقة، ورداءه الأبيض، وعينياه المتقدتان كقمرين في ليلة صيف صافية، ولحيته الممتدة بتهذيب منذ بدء البشرية حتى اليوم، فيرمقه بنظرته الصارمة التي تظهر جبهة خطت بها تجارب الأمم والشعوب ملايين التعرجات، تختصر تجارب الأمم والشعوب منذ اَدم حتى اليوم، فالتاريخ لا يغفل شيئا، وهو سيد نفسه، لا يخضع للابتزاز، ولا يؤمن بالحلول الوسط، وعلى الرغم من أن جعبته ملئ بالأسرار، إلا أنه يطلق بعضا منها بين حين وآخر كسرب حمام، لنعتبر منها، وهو ما يطلق عليه " شهادة التاريخ " .
يقف التاريخ بسطوته اليوم حنقا، غاضبا، متبرما، أمام الفلسطيني قائلا، أيها الكنعاني، العربي، الفلسطيني، ماذا عساك، أين نخوة الأحرار في دمك، أين إرادة الثوار بساعديك ، أين ثورة الغضب في عينيك، وأين ثقة المؤمنين بقلبك الذي أكاد أسمعه يخفق، ما الذي اعتراك، فلم تعد عيناك تلك التي كنت أعرفها، أين منها نظرة الغضب، أين صوتك الذي كان يملأ الأرض صخبا وضجيجا، وتحديا، وفعلا، وكيف ترتضي الخنوع على جوع أخوتك الأحرار ، ماذا دهاك، وما هذا الوجه الذابل الذي تحمله كقناع، قم وانثر الحنطة على وجهك، علك تلمله من جديد، قبل أن يتشظى، وتفقد صورة وجهك للأبد، أين النجوم التي كانت تضيء وجنتيك، لما أطفأتها بيديك، وأين السنابل والياسمين والدحنون، التي كانت تمتد على جبينك المعتق بعرق المقاومة والنضال، هل تراك استطبت العطر المصنّع من دم الهنود الحمر، حتى لو كان ثمنه جوع أخيك خلف زنزانة الفاشيين، ألم تتعلم أن الشعوب التي تبتغي الحرية لا تفتن إلا برائحة عرق ثوارها في ساحات المقاومة، ألم أحذرك مرارا من السقوط في فخ غرام ربطة العنق، وبدلة الجوتشي، فالفلسطيني لا تكتمل وسامته إلا بالكوفية، والبدلة المرقطة، هل بلغت بك السذاجة حد الوهم أن الأمم المتحدة ستصنع لك حرية، وتبني لك دولة، أو أن ترامب سيعيد لنا حقنا المسلوب نتيجة لصحوة ضمير مفاجأة، أو أن جامعة الدول العربية ستصحو من سباتها، وتنهض من كساحها، لتمسح دمعة عن مقلة القدس.
أنصت أيها الفلسطيني التائه لصوتي أنا التاريخ، فعلى الرغم من أنني لا أرحم من يكرر أخطاءه مرتين، فأنا لست جمعية خيرية توزع الحرية على الشعوب المتواكلة، إلا أنني سأبرق لك رسالة أخيرة علها تعيدك لدرب الصواب، اقرأ صفحاتي بعمق، أنظر إلى وجهي المعتق بتجارب الشعوب، لتعلم أن الحرية ليست زجاجة عطر فرنسي لتهدى، ولا بئر نفط، يهبه لك شيخ عن روح أبيه، ولا هي شارع معبد، يشاركك فيه مستوطن عنصري جاء من "أريزونا" بناء على أساطير تلمودية وهمية زرعها في عقله المريض محتليك، فرضيت القبول بها تحت مبرر التعايش المشترك، والموضوعية، والخارطة الدولية، ومعادلة القوى، وأولويات المجتمع الدولي في زمن العولمة والإرهاب العابر للحدود القارات، فما ذاك سوى وهم زرعته أنت داخلك لتبرر ضعفك، وانهزامك، وتواكلك، وعجزك، وتردي واقعك المعاش، وما تلك الأكاذيب سوى أدوات تجميل مصطنعة، تضعها برضاك على وجهك في محاولة يائسة لإخفاء حقيقتك القبيحة، فتزداد قبحا.
أيها الفلسطيني، النصر حليف المقاومين، الرافضين للظلم والعنصرية، والطغيان، للفرسان الذين وهبوا أنفسهم في سبيل تحرير المصلوبين على صليب الفقر، والجهل، والمرض، والفرقة، والطائفية، أرهقتني أيها الفلسطيني بحق، فما أن انظر إلى زنزانة مروان البرغوثي وكريم يونس، وياسر أبو بكر، وأحمد سعدات، وعبد الله البرغوثي، حتى أبدأ بخط أولى سطور شهادة انتصارك، وما أن أستدير قليلا لأرى أمهات الأسرى لوحدهم في الميدان، مع قلة لا تزال ثابتة على الحق، حتى أعود من جديد عن قراري، أتعبتني أيها الكنعاني الجديد، لم أعد أعلم أي وجه هو وجهك، أي عينين هما لك لأرمقك جيدا، أي ساعد هو ساعدك، وأي قلب هو قلبك، أأنت الذي يتحدى المحتلين في بيتا، وقلنديا، وشارع الشهداء، ودير كريمزان، أم ذاك الذي يقف ذليلا في طوابير العار، ليبيع دم أخيه، ويشتري بثمنه علبة شوكولاته من محلات المستوطن رامي ليفي دون أن يشعر بالخزي، كثيرة هي المرات التي كدت أن أحسم بها أمري وأكتب بها على صدري قصة انتصارك، لأراك مصرا على العودة إلى الهزيمة من جديد، لو كنت مكاني أيها الفلسطيني، فهل كنت ستوقع شهادة نصر لشعب منقسم، بارد المشاعر، يعيش في وهم الحصول على الحرية المجانية، عذرا فأنا لا أهب الحرية إلا لأصحاب المشاعر الملتهبة، والأفعال الحقيقية، فالحرية ابنة التاريخ المحببة، لا يهبها إلا لمن يدفع مهرها بالعرق والدم، والإصرار.
أيها الفلسطيني الجديد، إياك أن تختبر غضبة التاريخ، فتصبح خارج حدوده، فالتاريخ لا يخضع للتجارب، ولا ينساق للأوهام، وقوانينه عصية على التغير باختلاف الأزمان والأماكن، فأنا من وقع شهادة الانتصار لشعب فيتنام مع أول رصاصة " لثوار الفيتكونج "، حينما توهم العالم أن أمريكا غير قابلة للإنكسار، وأنا من خط بيدي وثيقة استقلال الهند، مع تفتح براعم الوعي الوطني لغاندي، ومع أول دعوة لمقاطعة المحتلين، وحينما كان العنصريين يغلقون باب الزنزانة على نيلسون مانديلا، كنت أسطر نهاية نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا.
أيها الفلسطيني الحبيب، أنا التاريخ، سجلت في ثنايا سطوري عبر الزمن، أن احتلالا يصبوا لأن يكون مريحا، وبأقل كلفة، وأكثر امتصاصا لدماء الفقراء، وخيراتهم، وحقوقهم، إلا أنني لم ولن أسجل أبدا منذ بدء الخليقة حتى اليوم، حرية مريحة وبلا ثمن، فالحرية أيها العزيز، لا تصنع في أروقة الأمم المتحدة، ولا بصحوة ضمير للمحتل سيطول انتظار وهمها، ولن تتحقق دون شعب موحد، يمتلك إرادة حقيقية للنصر، وإيمان عميق أنه قادم مهما كانت صعوبة الدرب، وتعرجاتها، وقبل كل ذلك، برنامج عمل فعلي لإنجازه، مع استعداد دائم لتحمل ثمن الحرية، ويؤسفني أيها الفلسطيني أن أخبرك أنك لا زلت بعيدا، بعيدا جدا، بوجهك الحالي، وأدائك المخيب من تحقيق النصر، ولعلي لا أخفيك سرا إن أخبرتك أن وجودك اليوم على أرضك مهددا أكثر من أي وقت مضى .
لن أقسو عليك كثيرا، فمن أجل مروان ورفاقه الثوار، ومن أجل البذور التي لم تزرع بعد، والسنابل التي لم تبذر بعد، والأطفال التي تولد بعد، والأمعاء الخاوية التي لن تقهر أبدا، والأرواح المؤمنة بحتمية النصر، سأكتب " فلسطين حرة، بعد استكمال أبنائها لمتطلبات التحرر، وتحررهم من وهم الحصول على الحرية مجانا أو الحرية الديلوكس .
بقلم : رائد محمد الدبعي