ترى ما الرسائل التي قصدها صاحب السيرة؟ من بضع مئات من الصفحات المليئة بالتفاصيل والتي ما زالت تشكل الجزء الأول من السيرة؟
أسئلة أخرى ظهرت في البال ونحن نقرأ للدكتور نبيل شعث، بل إنها تتجاوز ما هو شخصي إلى ما هو وطني وقومي وما بينهما؛ حتى عند الإطار الخاص به، كسنوات ما بعد ال76 حتى بداية التسعينيات، حين ترك حاضرة بيروت إلى حاضرة القاهرة، بما تشكله من تداخل الجدل السياسي لثورة، مع الصراع والتنافس بين الشخوص حول مركز القائد، إلى العلاقات الدولية السائدة في تلك الفترة ودور الاتحاد السوفييتي وإمكانات التحرك. وقد أثبتت الأيام صدق ما كان ينطلق منه، وبالأحرى أثبت اتجاهه العملي والاستراتيجي في التعامل مع الدول الكبرى، الاتحاد السوفييتي السابق مثالا، حيث كان الاتجاه السائد هو تكييف الموقف السياسي لا البحث الفعلي عن المصلحة العليا.
بعد الانتهاء من السيرة المشوقة، سيتساءل كل منا، عن أين ومتى كان/ت في هذه المحطة أو تلك، نافدا منها إلى تذكر موقفه مما كان، والأهم ما الذي كان بإمكانه أن يفعل وقتها، إلى الأكثر أهمية وهو ما يمكن صنعه الآن.
عرض سيرته الشخصية الممتزجة مع حياة شعبه وقضيته؛ فلم تكن الحياة العامة خلفية لسيرته، بل هما معا، حيث تقاطعت الدروب بين ما هو ذاتي وشخصي وفردي مع ما هو عام وجماعي ووطني.
تمحورت حياة دكتور نبيل شعث في الأكاديمية العلمية وليست فقط النظرية التي يعتاش منها ويحبها، وبين السياسية الوطنية التي عمل فيها متطوعا، وبين العمل في التنمية الإدارية والديمقراطية.
كما ارتبط في حياته بالراحل (أبو عمار) كما لم يرتبط بغيره، كان أبو عمار قائده كما ردد. حتى أنه فكّر جديا بالانسحاب من المشهد السياسي بعد رحيله.
لجأ الكاتب إلى اسلوب السرد الزمني المتتابع، من خلال لغة واضحة معبرة، بدءا بطفولته، والمرور على جذور العائلة، فذكر بتفصيل كاف لأماكن الإقامة، من صفد الى غزة والخليل ويافا فالاسكندرية. وقد لفت الانتباه دقة ومصداقية السرد، كأنه كان قد كتب موثقا تلك الأحداث من قبل.
وكان لسرده تفاصيل حياته الأسرية وأسرته الممتدة أثر حيوي، في بيان موضعة المكان والزمان، أين كان، وماذا كان، ومتى، بما يثيره من تشويق أدبي كأننا إزاء رواية.
لقد سرد الكاتب-القيادي، روايته وما شاهده من حكايات وأحداث عن قرب، كما أنه حتى وهو يسرد عن بعد، كما حدث في روايته عن أحخداث لبنان عام 1982، فقد كان قريبا في وصفه. ويميّز السرد هنا ما تضمنه أسلوب كتابة المقال.
أكاديمي وسياسي واداري، منذ نعومة أظفاره، انشد الطفل فالفتى فالشاب بالتحصيل العلمي، حيث تفوق في جميعا مجالات حياته العلمية، فارتبط بما تعلمه، ولم يزهد به، فكان أن ظل يعمل في هذا المجال، مكتسبا بالطبع قوته وقوت عياله منه. في هذا الجانب يصحبنا شعث إلى مدارسه التي تعلم فيها في فلسطين، في غزة ويالخليل ويافا، ثم في مدارس الاسكندرية، فجامعتها، فالجامعة في الولايات المتحدة، خصوصا في دراساته العليا، فالجامعة في مصر مدرسا والمعهد القومي للادارة العليا في القاهرة، بل ومركز التخطيط التابع لمنظمة التحرير في بيروت، فمحاضر في الجامعة الامريكية، بل وأيضا في شركة تيم للإدارة في القاهرة. لقد ظل للعلم قيمته ودوره في جميع هذه المحطات، وإن ارتبط العلم والأكاديمية بالسياسة العملية والنضال الوطني والقومي أغلب سنوات حياته.
وهو سياسي، جرب العمل السياسي فتى في الاسكندرية من خلال الأخوان المسلمين، ثم ملتحقا بحركة فتح في سنوات الشباب، قبل الإعلان عن انطلاق حركة فتح، ثم بالنشاط السياسي القومي من خلال منظمة الطلبة العربي في الولايات المتحدة. وما نشط فيه قوميا، دخولا في صراعات الأحزاب، وداعما قوميا لمصر بلده الثاني من خلال دعمها في القارة الإفريقية، ومتابعا لنضال الجزائر والسود في الولايات المتحدة، بل وفي مناهضة الصهيونية من خلال الحوار العميق والجاد مع اليهود. ثم ليتركز نشاطه القومي في فريق ابحاث العمليات لازالة اثار العدوان، مرورا في المشاركة في مؤتمرات فتح وزيارة الرئيس لنيويورك عام 1974، وصولا إلى مركز التخطيط في بيروت التي شهدت ربيعا فلسطينيا.
إداريا، وتمثل ذلك في تجليات ذلك أكاديميا، ثم في مهاراته في الإدارة السياسية، التي تجلات في زيارة الرئيس لنيويورك والمؤتمرات الحركية، والطلابية، فالمعهد القومي للإدارة ومركز التخطيط، وإنشاء مركز الخبراء العرب-تيم في القاهرة، ثم في مفاوضات بيروت من خلال وجوده في الولايات المتحدة عام 1982، ثم في رعاية المفاوضات في واشنطون عام 1991. وقد تقاطع الإداري بالسياسي بالنضالي، وبالطبع لم يكن البعد الأكاديمي غائبا.
ولعل مشاركته في فريق ابحاث العمليات لازالة اثار العدوان في مصر كان ملفتا، كونه كان على صلة غير مباشرة بالقائد عبد الناصر، سطع نجم خبير الإدارة العربي نبيل شعث في توظيف التنمية الإدارية للنهوض الاقتصادي، بالاعتماد على تطوير نظام التعليم المهني والتقني.
وهنا ينبغي ذكر عنصر مهم في شخصية د. شعث، وهو أنه عاش عمره بقلبين، لقد كان فلسطينيا ومصريا في آن واحد، قد يعود ذلك إلى حياته وزواجه في مصر، وقد يعود إلى الفترة الناصرية تحديدا، والتي ربطته بمصر قلبيا وفكريا، ناشدا الخلاص الوطني من خلال العمل القومي. وهناك شخصيات سرد عنهم صاحب السيرة الذاتية، كانوا مثله، فلسطينيين ومصريين، مثل غازي فخري وسعيد كمال وزهدي القدرة، ومحمد صبيح وغسان مطر وآخرين. وهم يمثلون ظاهرة قومية في انتماء الفلسطيني لفضائه العربي، ووفائه، فليس هناك تناقض بينهما، إلا إذا تم توظيف الفلسطيني للدخول في صراعات ليست من أولوياته. ولعلنا ننجز كفلسطينيين كتابا يوثق هؤلاء الأوفياء، وغيرهم بالطبع، للوصول الى استخلاصات التفاعل الوطني-القومي، علما أنهم في غالبيتهم دفعوا أثمانا فيما بعد، في مرحلة التحولات السياسية بعد كامب ديفيد، لكن الحب والوفاء لمصر كان مؤكدا.
لعل من أهم القضايا-الأفكار والمواقف والمعارك السياسية التي طرحها في كتابه وحياته النضالية: الانتصار للدولة الديمقراطية في فلسطين كحل بديل للعنصرية، والدولة المستقلة في الضفة وغزة، وما رآه من عملية سيساسية ستجري بعد حرب اكتوبر عام 1973 حتى قبل بدئهما فعليا. إضافة إلى ما تحدث عنه مجملا لكن واضحا عن تيارات حركة فتح.
شخصيا، كان للأستاذ علي شعث والده تأثير ظاهر، حيث ظهر كأحد مصادر التكوين والمعرفة، والوطنية والقيم؛ فكأن سيرة حياة الابن أيضا سيرة حياة الأب بما مرّ عليه من أحداث خاصة وعامة، حيث ظهر كأب ومعلم وما له من زملاء مهمين، وخبير مالي، ووطني يستقبل اللاجئن الفلسطينيين فقي الاسكندرية، وكناشط قومي يستقبل ناصر في نادي فلسطين في الاسكندرية، بل أيضا كعنوان للحركة الوطنية، حيث قصده الراحل عرفات وابو جهاد وابو إياد في الاسكندرية، بل وكمفكر سياسي ناقد، حين نصح ابنه نبيل الفتى حينئذ والذي كان قد مشى مع الأخوان: ليست هذه معركتنا يا نبيل! بل وكمتنبئ سياسي توقع هزيمة حرب 1967، بما اطلع من استعداد الإسرائيليين.
لذلك ارتبط الاب بابنه، والابن بأبيه رغم ما بدا من اختلاف، فقد ارتبطا بالوفاء والقيم وحب التعليم وكونه مفتحا للتحرر، كما تشابها في الإدارة العملية، وعالمية العلم والإدارة، وضرورة الاستفادة من إنجازات العصر.
من خلال سرده الذاتي والموضوعي، أمكننا قراءة التفاؤل بالغد، والحيوية الفكرية والفنية، حيث أقبل الفتى والشاب على الفنون، ومارس العزف بشكل خاص. واقترب من عوالم الادب والسينما والصحافة والإعلام. وما تأسيسه لدار الفتى العربي إلا احد دلائل الحيوية والتفاؤل، ومنها تأسيس "دار الفتى العربي" لنشر كتب الأطفال، واهتمامه بالتعليم دائما.
محطات عديدة سرد عنها، الكثير منها بات معروفا، لكن لسرده الخاص منطلقا من نقطة الارتكاز-الاستناد، جعل للسرد بعدا جديدا، حيث ظهر المكان الذي كان فيه في ذلك الزمان، بما له من مؤثرات على الحكاية.
ولعل ما هو شخصي وذاتي قد انعكس إيجابا على شخصيته الوطنية والعامة.
لعل الرسائل التي قصدها صاحب السيرة رسائل إنسانية ووطنية، وقومية، وشخصية أيضا، وكشهادة له على ما كان، حتى نعد لما سوف يكون. ولعله في جزء منه بوح خاص-عام، بوحه كفرد وذات، وبوحه كفلسطيني تعرض للنفي والاستلاب.
كما اسلفنا، ارتبط الذاتي الشخصي بالعام الموضوعي الوطني، لعل إثبات الذات الفاعلة ذاتيا هنا للفتى الذي كان والشاب والقائد، تتقاطع مع إثبات الذات الوطنية للفلسطينيين خصوصا للاجئين منهم.
لقد وضعته رحلاته خارج الوطن العربي أيضا أن يشعر بعروبته، وبتراثه، وثقافته ودينه السمح، حيث عانى من النظرة النمطية السلبية تجاه العرب والمسلمين، وهنا بالذات يحضر ذكاء ذلك الشاب في مقتبل العمر، في اختيار طرق إبداعية في الرد والتوضيح، وكسب الخصوم بدل خسرانهم. ظهر ذلك في سرده عن اكتساب خبرات المالية والبنوك في أوروبا، والتعليم العالي في الولايات المتحدة.
وكان لوجوده خارج الإقليم العربي أثر في تعميق اتجاهه العروبي الذي نشأ أصلا عليه في البيت، وكفلسطيني يجد في العروبة حصنا، ورغم أنه دخل في حالة الصراع بين التيارات القومية في رابطة الطلبة العرب في الولايات المتحدة، إلا أنه أظهر كفلسطيني ومصري وعربي وعيا خاصا في التجميع لا التفريق، والذي للأسف لم يتم البناء عليه لا في الرابطة، ولا في الحالة العربية حتى الآن.
كذلك يمكن تتبع الأسماء المروي عنهم/ن، ما حضر منها، ومستوى ذلك الحضور، وما غاب، تلفت الانتباه من خلال رسالة خفية، عمن كان في قلب الحدث، وفي صناعته. وسيكون حديثنا هذا اكثر اكتمالا في حالة الاطلاع على الجزئين التاليين من السيرة.
ذيّل الراوي سيرته بملخص رسالة الدكتوراة وهو الملحق رقم 1، وهو يستحق النشر اليوم في بلادنا العربية، وهو حول التعليم والتعليم العالي، وفيها تظهر عبقرية الشاب العشريني في فلسفة التعليم وإصلاحه جذريا، خصوصا التعليم المهني، كان رائدا وسباقا في رؤيته، متأثرا بخبراته داخل مصر، وخارجها. كذلك أظهر بعد نظره لحل الصراع هنا، من خلال الملحق 2، تحت عنوان "فلسطين الغد"، التي نشرها في دورية شؤون فلسطينية العدد الثاني 1971 ، والتي تتحدث عن رؤيته الإبداعية التي كان يطرحها عالميا ووطنيا في المجالس الثورية، والتي تشكل الحل الإنساني والعملي والاستراتيجي، من خلال الدولة الواحدة، والتي ظلت تصطدم مع العنصرية الصهيونية حتى الآن، لذلك فقد مال المفكر السياسي الشاب قبل حرب 1967 وبعدها إلى حل الدولتين، تاركنا للتفكير ربما، بأن ما يمكن تحقيقه عمليا بهذا الحل سيقود استراتيجيا للحل الأول.
وأخيرا اختتم صور شخصية عائلية وطنية مثيرة للتأمل. وقع الكتاب في 540 صفحة من القطع المتوسط. صدر الكتاب عن دار الشروق.
تحسين يقين