القضية الفلسطينية تحظى برعاية وحماية ربانية تبقيها حيّة لا تموت ولا تندثر، وكلما ظن المرجفون، أو يئس المخلصون أو أوشكوا على القنوط، جاء أمر لم يكن في الحسبان ليعيد القضية إلى حيويتها وعنفوانها وألقها، ولتصبح متقدمة على كل قضايا العالم، رغم أنف الماكرين، وكيد المتربصين.
هل تذكرون خروج م.ت.ف من لبنان إلى المنافي وحالة اللامبالاة وطغيان مظاهر الاستكانة على سكان الضفة وغزة(عموما) وهو ما شجع مؤتمر القمة العربية على جعل موضوعها المركزي هو إيران (كانت في حرب مع العراق) ثم ماذا؟خرج الفلسطينيون في جباليا وغزة ونابلس وجنين وكل المدن والمخيمات والبلدات ليرشقوا الجيش الصهيوني بالحجارة، وهو في حالة ذهول وقد راهن على أن كل شيء تحت السيطرة، وأن من ولدوا وعاشوا تحت الاحتلال قد تم تدجينهم وترويضهم، وإذ بهم أشد وأشرس الرافضين لوجوده، وما حطّ من عزيمتهم لا تكسير العظام، ولا الشمس الحارقة في (كتسيعوت)؟
من كان يظن صيف 1987م أن الشتاء سيكون ساخنا، وأن المظاهر الموجودة في الشوارع ستنتهي وتتبدد، لأن الشعب لا يريد أن يظل تحت الاحتلال، ولو مع امتيازات اقتصادية، وأن الحرية عنده مقدمة على ما حاول الاحتلال أن يفتـنه به.
ثم ماذا؟هزم العراق، وجرّ الأمريكان العرب إلى مدريد، ليذكروهم بأنهم يأتون إلى الإقرار بهزيمة جديدة في الإقليم الذي هزموا فيه قبل قرون، وطرد أجدادهم منه شرّ طردة...وتبع ذلك أوسلو ووادي عربة، وهرول عرب من مستويات وطبقات ونخب سياسية وفنية واقتصادية نحو التطبيع المخزي المهين مع الاحتلال، واختزل مفهوم كلمة (السلام) وهي من أسماء الله الحسنى، بالتطبيع والاستسلام للمشروع الصهيوني، والتسليم به حقيقة واقعة، لا مجال ولا طاقة ولا قدرة ولا (عقلانية وواقعية) في سبيل مواجهته.
فانطلقت انتفاضة تحمل اسم جوهر القضية(الأقصى) لتكتب بدماء محمد الدرة أن لا سلام مع المحتل، وأن المشروع الصهيوني سرطان لا يمكن لجسد حيّ أن يتعايش معه، وأن هذا الجسد لن يموت بهذا السرطان أبدا.
اليوم نسمع ونقرأ ونرى استنفارا وخوفا وهلعا مما يرتب، ومن مخططات الرئيس الأمريكي المتعجرف (ترامب) وكثير من تلك المخاوف واستشعار السيناريوهات السيئة دافعها الإخلاص والخوف والحرص على القضية من شبح التصفية الذي يلوح تحت عناوين شتى دولية أو إقليمية، ولا لوم على السواد الأعظم من أصحاب المخاوف والهواجس والأرق، ولكن حق لي أو وجب عليّ أن أذكرهم بأن الله –سبحانه وتعالى-هو الذي يحمي قضية فلسطين، ويسيرها بتدبير نعجز عن إدراكه حتى تتجلى لنا معالمه وآثاره، ولولا أن الله يرعى ويحرس قضيتنا، لكانت اندثرت وصار حالنا حال الهنود الحمر في الأمريكيتين، أو حال إخوتنا الموريسكيين في بلاد الأندلس.
فو الله إن المخططات والمؤامرات والمحن والحروب ومشاريع التهويد والصهينة والتطبيع، والحلول المجحفة بحقنا التي كانت وما زالت على طاولات قادة وساسة العواصم القريبة والبعيدة، والتي تتالت وتتابعت سنة بعد سنة، وأنـفق دونها ارتفاع ما يوازي ارتفاع الجرمق من الأموال متعددة المصادر، كانت كافية لنصبح أسوأ حالا ممن ذكرت، وأن تتحول قضيتنا إلى رفوف كتب التاريخ، وأرشيف الملفات القديمة...ولكن الله شاء وأراد أن تظل القضية حية متجددة متجذّرة، لا تطمسها السنون، ولا تئدها المؤامرات وتعجز عن تصفيتها المخططات والاتفاقيات والتفاهمات.
هنا قد يقال إن هذا كلام (دراويش) ومفعم بالأيديولوجيا، ومشبع بالأحلام الوردية، ويستبطن عجزا عن مواجهة الحقائق والوقائع، وبعيد عن حسابات السياسة؛ قلت:تشرفني الدروشة إن كانت تعني الثقة برعاية الله، هذا أولا، وثانيا:ما فائدة تنظيرات أدعياء فقه السياسة وفذلكاتهم الكلامية وحساباتهم ومصطلحاتهم في ظل الواقع، ما دام قد ثبت فشلها وعقمها وعجزها عن تقدير الموقف وطرح رؤية مقنعة في الماضي؟أليس هؤلاء هم من بشرونا دوما إما بسلام ورخاء، يبني فيه الجلاد مع الضحية (سويسرا الشرق الأوسط)، أو بضياع واندثار واستسلام وشطب الهوية والقضية؟إذا كانوا قد نسوا فارجعوا إلى أرشيفهم.
أما أنا فيشرفني ويسعدني أن أثق بأن الله-جل وعلا-لا يريد لقضيتي أن تدفنها المؤامرات، وهو يريني العجائب، فكم من رئيس أمريكي أتى وذهب إلى منزله أو المقبرة، فيما أقول ويقول جاري ويقول حتى من أختلف معه سياسيا وفكريا من أبناء شعبي:أنا من حيفا ويافا والجليل وبئر السبع والمجدل والقدس وبيسان؟فهل سيكون حظ هذا(الترامب) أوفر،كلا والله لأن هناك سنّة ربانية واضحة لمن يتأملها.
إلى المخلصين كما اليائسين كما الخائفين كما المترقبين كما الحائرين:إن ترامب ومن قبله أوباما ومن قبله بوش ومن قبله وصولا إلى فرعون والنمرود والأكاسرة والقياصرة وجميع الأباطرة ممن هم فوق التراب أو تحته، ليسوا هم أرباب هذا الكون فالكون له ربّ واحد هو الله وحده، وقد خصّ ربنا هذه الأرض المقدسة، بما لم يخص به سواها، والتاريخ خير شاهد، وسنرى من تدبير الله ما يجعلنا في حالة تـفوق قدرتي على الوصف، فانتظروا إني معكم من المنتظرين.
بقلم:سري سمّور