إضراب الحرية والكرامة : محاولة لاستجلاب العبر

بقلم: رائد الدبعي

      أثبت إضراب الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، والذي استمر لواحد وأربعين يوما، وانتهى بتحقيقهم لعدد كبير من مطالبهم الإنسانية والعادلة، وخضوع إدارة السجون الإسرائيلية التي رفضت مليا التعاطي مع  قادة الإضراب أخيرا لمطالبهم، ومفاوضتهم بشكل مباشر، بما في ذلك قائد الإضراب مروان البرغوثي، أن الشعب الفلسطيني يمتلك مخزونا هائلا من القوة الذاتية، ومن مقومات الانتصار، إلا أنه وفي ذات الوقت، عرّى الكثير من نقاط الضعف التي تنخر مجتمعنا الفلسطيني، وأظهرت بشكل جلي، حالة الهزال والتراجع الشديدين، التي تعاني منها العديد من المؤسسات والقوى المجتمعية، والتي كان لها دورا مؤثرا وفاعلا، خلال محطات نضال الشعب الفلسطيني.
 الإضراب أعاد الاعتبار للقوى المحلية في المجتمع :
     نجح إضراب الحرية والكرامة في إعادة الاعتبار، والتأثير للقوى الشعبية في المجتمع الفلسطيني، وللقيادة المحلية في المدن والقرى والمخيمات، بعد أن ساهمت اتفاقية "أوسلو" في تغييب هذا الدور، نتيجة إضعاف تلك القوى، لصالح القيادة الجديدة العائدة من المنافي، والتي تقلد أعضاؤها مختلف المواقع القيادية في الوطن، فيما تقلدت القيادات المحلية مواقع قيادية ميدانية، ومتوسطة في النظام السياسي المستحدث، باستثناء بعض الحالات الاستثنائية، التي استطاعت النفوذ لمواقع قيادية في المجتمع.
    كما أنه أعاد الحيوية- بشكل مؤقت-  لدور الطبقة الوسطى، في المجتمع الفلسطيني،وفي رسم الشأن العام، بعد أن استطاعت الطبقة الرأسمالية العابرة للحدود والقارات الاستحواذ على رسم، وتوجيه، وتحديد مساراته، نتيجة تزاوج مصالح تلك الطبقة، وخلق تحالف مع القوى السياسية الفاعلة في المجتمع، إذ أن قرار الإضراب الشامل الذي اتخذ في السابع والعشرين من نيسان، اتخذ من قبل تلك القيادات المحلية، وبشكل موحد في مختلف محافظات الوطن، وهو الأمر الذي يعيد الذاكرة لقرارات القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة الشعبية عام 1987، حينما كانت المخيمات، والأحياء الشعبية، والقرى مهدا للقرار الميداني في الوطن.
الأسرى لا زالوا قادة الفعل والميدان
     على الرغم من كل محاولات الاحتلال لتغييبهم القسري عن ساحة الفعل، وعن التواصل مع شعبهم، إلا أن إضراب الحرية والكرامة، قد أعاد تأكيد أن للأسرى حضورهم الطاغي، وقدرتهم الكبيرة على التأثير في القرار، وفي توجيه الشارع، وإعادة صياغة المعادلة من جديد، وهو الأمر الذي يستوجب قراءته بشكل دقيق من مختلف الفاعلين على الساحة الفلسطينية، ومن مختلف القوى المؤثرة والمتأثرة بالقضية الفلسطينية بشكل عام، إذ أن الشعب الفلسطيني بأكمله في الوطن والشتات، كان ينتظر بكل ترقب أي كلمة، أو تصريح، أو رسالة تخرج عن قائد الإضراب مروان البرغوثي، أو رفاقه كريم يونس، وناصر عويص، واحمد سعدات، وغيرهم من قادة الإضراب، فيما كانت توجيهات قيادة الإضراب، تستقبل في أرجاء الوطن على أنها تعليمات مقدسة تستوجب التنفيذ، وهو الأمر الذي يمكن ملاحظته من تكثيف حملات ودعوات مقاطعة  الاحتلال في فلسطين  والخارج  بعد دعوة قيادة الإضراب للعصيان المدني، هذا بالإضافة إلى أن أخبار الإضراب، ومواقف قيادته كانت خبرا لمختلف وسائل الإعلام العالمية، مما أعاد للقضية الفلسطينية حضورها، في ظل تراجعها نتيجة الأوضاع في المنطقة والعالم،  وهو الأمر الذي غاب عن الساحة الفلسطينية خلال العقد الماضي بشكل جلي.
أعاد للقضية الفلسطينية عمقها العربي والإنساني:
      لم يكن سوى لقضية بحجم إضراب الأسرى أن تعيد للقضية الفلسطينية حضورها الطاغي في الشارع العربي، الذي غرق خلال السنوات الست الماضية، بقضاياه الداخلية، وصراعاته البينية، وأضحت قضايا الطائفية، ومحاربة التطرف والإرهاب، وتوفير لقمة الخبز، وشربة الماء، والدواء، أولوية لمختلف دول الربيع العربي، الذي استحال خريفا نتيجة عددا من العوامل التي لا مجال لذكرها في هذا السياق، إلا أن الأهم هو أن أحد ماَلات ذلك، هو تراجع القضية الفلسطينية، وغيابها عن أولويات المواطن العربي، الباحث عن الحرية والكرامة، إلا أن إضراب الأسرى قد أعاد بعضا من الاعتبار لقضية فلسطين، وأعاد  فرض حضورها من جديد، على أجندة المواطن العربي في الجزائر، والرباط، وعمان، والقاهرة، وبيروت، وكذلك في  باريس،ولندن، ومدريد، واسطنبول.
 
الوحدة الوطنية قانون الانتصار:
 أعاد إضراب الحرية والكرامة الاعتبار لقيمة الوحدة الوطنية في الميدان، بعيدا عن الجعجعة، والاستخدام الممجوج للمفهوم، بهدف تحقيق نقاط في ملعب الخصم، وأكد أن الشعب الفلسطيني لا زال قادرا على تحقيق الإنجاز، ولا زالت جعبته ممتلئة بمقومات القفز عن الخلافات الثانوية، لصالح التناقض الأساسي، ممثلا بالاحتلال الإسرائيلي، فعلى الرغم من استنكاف عددا من الحركات والقوى عن المشاركة في الإضراب، وفي مقدمتها حركتي حماس، والجهاد الإسلامي، والمشاركة الجزئية لعدد من الفصائل والقوى اليسارية فيه، إلا أن انضمام عددا من رموز الحركة الأسيرة له، ومن بينهم الأمين العام للجبهة الشعبية أحمد سعدات ووجدي جودة، وعاهد أبو غلمة،  وباسم خندقجي، منحه قوة إضافية، وبعدا وحدويا، وأضاف له قوة معنوية .
الإضراب عرّى الفصائل وأثبت ضعفها:
     ساهم الإضراب بشكل عميق في كشف الأزمة العميقة التي تمر بها مختلف  الفصائل على الساحة الفلسطينية، وفي سقوط  ورقة التوت التي غطت سوأتها خلال العقد المنصرم، إذ أن أداء مختلف الفصائل على الساحة الفلسطينية، جاء مخيبا للآمال، وما تم تنظيمه من أنشطة وفعاليات على صعيد  عدد من المحافظات، كإغلاق الطرق، والاحتكاك المباشر مع جيش الاحتلال، اتخذ من خلال القيادات المحلية، والوسيطة، لتلك الفصائل،  فيما امتاز  موقف قيادة الصف الأول لمختلف الحركات والفصائل، والقوى الوطنية والإسلامية، بالتأخر، والتردد، والضبابية، ورد الفعل، كما أظهر الإضراب بشكل عام، الأثر المدمي للانقسام، أفقيا وعموديا في المجتمع الفلسطيني، إذ أن النموذج الوحدوي الذي سطره الأسرى داخل السجون، عجز عن فرض نفسه خارجها، سواء نتيجة استنكاف القوى الإسلاموية عن المشاركة في فعاليات تعزيز المضربين، واقتصار تواجدها  في خيم الاعتصام على حده الأدنى، وعدم بذل أي جهد لتحريك الشارع الإسلامي، نتيجة للنظر له من زاوية الكسب والخسارة الضيق، المتمثل بتسجيل نقاط حزبية لطرف دون آخر، فيما أظهر إضراب الحرية والكرامة أزمة القوى الوطنية ممثلة بفصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وكشف حجم الفجوة بين قيادة الصف الأول بها، والقيادات الميدانية، والشابة،  وأظهرت بشكل جلي غير قابل للتأويل، أن لكل مستوى من مستويات القيادة بها، قراءتها الخاصة للأمور، وترجمتها المختلفة للخيارات والبدائل، كما أنها أظهرت اضمحلال هوامش دور الطبقة الوسطى داخل تلك الأحزاب، التي تقاد من خلال طبقة عليا، لها مصالحها، وامتيازاتها، التي أضحت تحكم قراراتها، وسلوكها، وأولوياتها، إذ أن اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، لم تعقد اجتماعا لها خلال فترة الإضراب.
غياب مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني:
 كشف إضراب الأسرى بشكل واضح، حالة العجز التي تعاني منها الكثير من مؤسسات المجتمع الفلسطيني، التي تدخل موازناتها مئات الآلاف، وربما تصل الملايين سنويا، لتنظيم أنشطة تتعلق بحقوق الإنسان، والمساواة بين الجنسين، وحقوق الطفل، والحكم الصالح، ومحاربة الفساد، وغيرها من القيم السامية، إلا أن الغريب أن تلك المنظمات والمؤسسات نفسها، التي تعتمد في تمويلها على مشاريع أجنبية، تقوم بالأساس على مجموعة من الضوابط، والأسس والشروط، قد غاب صوتها عما يعانيه الأسرى من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وعما يمارس من انتهاكات جسيمة بحق النساء في سجون الإحتلال، وعن الجرائم التي ترتكب بحق الأطفال داخل زنازين الحقد الصهيوني، ففي الوقت الذي تقوم به العشرات من المؤسسات بنشر تقارير مهنية ودقيقة توثق الانتهاكات التي ترتكب ضد حقوق الإنسان داخليا، تتحول تلك المؤسسات إلى مجموعة من العجّز، والصم، والعمي، أمام ما يمارس ضد أبناء شعبهم على يد الاحتلال، خوفا على مصالح قيادة تلك المؤسسات، وامتيازاتهم، ورواتبهم التي توازي رواتب رؤساء دول، وحرصا على استمرار المجتمع الدولي، والمؤسسات الداعمة بفتح بواباتها وخزائنها لهم، إلا أن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال عدم النظر باحترام وتقدير للعديد من مؤسسات المجتمع المدني، التي قامت بواجبها على أكمل وجه في دعم وتعزيز إضراب الحرية والعدالة، وفي مقدمة تلك المؤسسات نادي الأسير الفلسطيني.
تراجع دور الحركة الطلابية ومجالس الطلبة:
شكلت  الحركة الطلابية على مدار نضال الشعب الفلسطيني رأس حربة المواجهة مع الاحتلال، وقد شكلت مؤتمرات الشباب الفلسطيني إحدى محطات النضال الفلسطيني، ونشر الوعي الوطني إبان الانتداب البريطاني لفلسطين، كما أن جذور  الثورة الفلسطينية المعاصرة، تمتد إلى الحركة الطلابية، من خلال رابطة الطلبة الفلسطينيين في مصر، وقد كان لمجالس اتحاد الطلبة دورا محوريا في توجيه دفة المقاومة خلال انتفاضتي شعبنا، إذ كان قادة الحركة الطلابية هم قادة الفعل المقاوم في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو الأمر الذي حذا  بقوات الاحتلال إلى إغلاق الجامعات، واستهداف قادة الحركة الطلابية، بالاعتقال، والإبعاد، والاغتيال .
    إلا أن إضراب الحرية والكرامة  قد أظهر ضعف الحركة الطلابية الفلسطينية، وتراجع دورها الوطني بشكل صارخ، فما نظم في معظم جامعات الوطن من فعاليات لإسناد الأسرى لا يرتقي لحجم الحدث، ولا يتوافق مع حقيقة أن  عدد كبير من قادة الإضراب هم من  قادة الحركة الطلابية الفلسطينية ورموزها، فقد خلت العديد من فعاليات المواجهة مع الاحتلال على الحواجز، والمناطق المصنفة " جيم " من نشطاء الحركة الطلابية، فيما جرت العادة أن تكون الحركة الطلابية هي من ينظم تلك الفعاليات ويقوده.
  الفلسطيني قادر على الانتصار
    استطاع إضراب الحرية والكرامة، أن يثبت أن الفلسطيني قادر على صناعة الانتصار، وأن زراعة العزيمة، حصادها الإنجاز، إذ أن ما حققه الأسرى في إضرابهم، تجاوز بشكل أكيد حدود الزنزانة، وجغرافيا المعتقل، إلى فضاء الوطن، فقد أهدونا أسرانا البواسل، ما نتعطش له منذ عقد من الزمن، وهو الأمل، إذ أن حصاد الفشل المتتالي في كل مواسم  البحث عن إنهاء الإنقسام، وتحقيق الوحدة الوطنية، التي أضعناها، وأضعنا معها عشر سنوات من عمر الوطن والقضية الفلسطينية، قد أورث الجيل الفلسطيني الشاب، بل والشعب الفلسطيني بأكمله جرعا هائلة من الإحباط، واليأس، من القدرة على تحقيق الوحدة، والقفز عن جبل الانقسام، فجاء أسرانا من خلف الزنازين، ليثبتوا أنه الانقسام ليس سوى حفرة يمكن القفز عنها، وان المحتل كغيره من الطغاة، يمكم الانتصار عليه بالإرادة والفعل، والوحدة، والعمل المشترك.
  مبارك للأسرى انتصارهم، وواجب علينا أن نقف لنقيّم أدائنا، ونطبب جروحنا، ونتعلم من أسرانا كيف نتحرر من أغلالنا التي قيدنا بها أنفسنا، وكيف نضحي أحرارا في سجننا الكبير.

بقلم : رائد محمد الدبعي