في مدينة Geleen جنوب هولندا ، التي تقع على الحدود الهولندية البلجيكية، و من عُقر مركز الهدى الإسلامي، يعلنُ ثلاثةُ مواطنين هولنديين تباعاً اعتناقهم الدين الإسلامي الحنيف، ليزيد عددُ المسلمين ثلاثة أنفار لحقوا بقافلة النبي محمد عليه الصلاة والسلام ..
ففي الثاني من شهر رمضان الجاري، و بعد تأديتِنا صلاة العصر في مركز الهدى، فاجَأَنا إمامُ المسجد الشيخ إبراهيم أبومحمد بخبرٍ سارٍ أَنْسانا مشقّةَ الصيام و العطش، حينَ قال بأنّ هناك فتاةً هولندية في ريعانِ الشباب تريد إعلانَ إسلامِها على الملَأ، و بدأ الشيخ إبراهيم يلقّنُها شهادة التوحيد باللغة العربية و اللغة الهولندية، لتعلو صيحات التكبير بعد ذلك في رحاب المسجد في مشهدٍ تقشعرّ له الأبدان فرحاً بهذه المفاجأة الثمينة، ليس هذا فحسب، بل إنّ هذه الفتاة كان قد سبقها بأيّامٍ قليلةٍ إلى اعتناق الإسلام طفلٌ هولنديٌّ في الثالثة عشرة من عمره، في المدينة ذاتِها و في المسجد ذاتِه أيضاً ، و إننّي من الإنصافِ بمكان لو اتّخذتُ منه بطلاً لحكايتي هذه، لأنه يستحقّ ذلك بلا منازع..
لوسيانو ابنُ الثلاثة عشر ربيعاً ، يضع لحياتهِ بدايةً جديدةً ، انطلاقتُها الأولى من مركز الهدى الإسلامي، و جملتُها الأولى هي : أشهد ألا إله إلا الله و أشهد أنّ محمداً رسول الله..
تلك الكلماتُ التي كان لها وقعٌ خاصّ حين انبثقَتْ من ثنايا ثغره الغَضّ ، محاولاً نُطقها بلغةِ الضاد و دون أيّ اعوجاج ، ليبدأ بعدها مرحلةً ثانيةً و بدون تردّد، متّخذاً قراراً تاريخيّاً بتغيير اسمه الذي لم يعد يناسبه، ولم تعد لحروفه المنقوشة على قلادة الذهب قيمةٌ تُذكَر، مستبدلاً اسمه باسمٍ آخر أحَبَّهُ دون أن يعرفَ فحواه و دون أن يتعمّقَ في حكايته التي سطّرها القرآنُ في جزئهِ الثاني عشر، والتي أعطت الرسولَ الكريم دروساً في فنّ العِفّة..
لوسيانو لم يعد لوسيانو، بل أصبح ( يوسف) هكذا بدون مقدّمات..
فجميعُنا فُرِضت أسماؤنا علينا عند ولادتِنا ،شِئْنا أمْ أبَينا إلّا يوسف، فهو من اختار هذا الاسم دون أن يصلَهُ حديثُ رسولِ الله صلى الله عليه و سلم : لكلّ من امرئٍ من اسمهِ نصيب، و دون أن يعلمَ أنّه سيكون له بإذن الله وافرُ الحظ و النصيب من عفّةِ يوسف، و التي لم يقف جبروتُ الأبواب المُغَلّقَةِ أمامَ عظمتِها ، ولم تستطع امرأةُ العزيز زعزعتَها رغمَ نفوذ الإمارة الذي حظيَت به..
سيكونُ ليوسف كذلك نصيبٌ من الظَّفَر إذما سيعودُ ملكاً على أقرانه في دينٍ جديد أخرجَهُ من الظلمات إلى النور..
كيف لا و قد حفظَ فاتحةَ الكتاب و سورة الإخلاص و مبادئ الصلاة في أقلّ من أسبوع، ولاأبالغُ أبداً إذا قلتُ لكم أنّ يوسف سَيُنجِز و سيأتي بعد أشهرٍ معدودة بما عجزنا عن تحقيقه خلال عقودِ إسلامِنا و سنواتِنا المملوءةِ بحُبّ الحياة، الحياة ذاتِها التي رفضها لوسيانو بكلّ ملذّاتِها و أقبلَ إلى اللّه..
سَيَسْبِقُنا يوسفُ إلى صلوات الفجر حتماً و سيؤدّي أركان الإسلام على أتمِّ وجهٍ و سيستلذّ بعطشِ الصيام الذي نتذمّرُ منه نحن الذين لدينا باعٌ طويلٌ في الإسلام..
عدّادُ عمره في الإسلام لم يتجاوز رقم سبعة في أيامه التي تُعَدّ على أصابع اليد و لكنّه سيذهب بعيداً ، و بفترةٍ وجيزةٍ ، و ربّما أعودُ إليكم بِحَولِ الله إلى هذا الموقع بعد سنةٍ تقريباً ، لأعرضَ عليكم ما قدّمه يوسف لهذا الدين خلال سنة واحدة من عمره الجديد ..
ليتَ الدهرَ يُرجعُني طفلاً ذا ثلاثة عشر عاماً ، لا لشيء و ليس طمعاً بطفولةٍ متآكلة، بل من أجل منافسةٍ شَرِسة مع يوسف في ميدان الدين و العقيدة، لأنّني إذا أردتُ منافستَه الآن فإنّ فارِقَ السّنّ سيُحرجُني كثيراً ، فكيف لي و قد دخلت في عقدي الرابع أن أنافِسَ طفلاً واثقاً من نَصرِه ثقةً مُطلقة، بينما تضمحلّ قدراتي أمام قدرات يوسف التي ستفاجئنا بعد وقتٍ يسيرٍ بإنجازاتٍ ضخمة كانت أعناقُنا قد تيبّسَت و نحن نرنو إليها بعين الأمل ..
أمّا السؤال الذي لابدّ أن يُطرَحَ هنا هو كيف أسلمَ لوسيانو و هو في هذا السّنّ المبكّر، وكيف لامسَ الإسلامُ شغافَ قلبِه الفَتِيّ ؟
كان ذلك عن طريق أقرانه المسلمين الذين لفتوا انتباهه إلى دينهم الحنيف من خلال تعاملهم معه، فأحَبَ دينَهم هكذا بدون أسبقيّاتٍ تُذكَر، فبدأ بالاطّلاع على المفاصل المهمّة للإسلام، ليتّخذَ بعد ذلك قراره الذي يضاهي قرار ألف رجل..
ولعلّ الشخصيّةَ الثالثةَ التي اعتنقت الإسلام في المدينة التي أعيش فيها هي ليست ببعيدةٍ عن يوسف، إنّها أمّه، السيدة خابريلّا التي تنحدر من أصولٍ إيطاليّة ، و التي تصوم شهر رمضان منذ سنتين دون أن تعلنَ إسلامَها علانيةً في وضح النهار ، ليأتيَ اليوم الذي تمتزجُ رغبتَها مع رغبةَ نجلِها لوسيانو، فيشجّعانِ بعضَهما بعضاً للمُضِيّ نحو الفلاحِ في الدنيا والآخرة، تاركين وراءَهم إرثاً أوروبيّاً رخصَ أمام مبادئ الإسلام السامية..
السيدة خابريلا و ولدها لوسيانو، وتلك الفتاة العفيفة التي ماعرفتُ اسمَها بعد، أصبحوا ثلاثةً يعتنقون الإسلام و يبدؤون بالصيام الشاق الذي يرونه قريباً و نراهُ بعيداً ..
ورغم أنّهم نفرٌ ثلاثة، و لكنني انحزتُ الانحيازَ كلّه لصغيرهم يوسف الذي ستبدأ من اليوم معركتي التنافسيّة معه في رحاب مركز الهدى الإسلامي..
الشكر كل الشكر ِللَجنةِ هذا المركز و في مقدّمتهم إمام المسجد و خطيبه المفوّه إبراهيم أبو محمد، على حسنِ استقبالهم للنفر الثلاثة و جهودهم في استيعابهم و الإشراف على تعليمهم مبادئ الإسلام، سائلاً المولى عزّ و جلّ أن يكون ذلك في ميزان صحائفهم يومَ لا ينفع مالٌ ولا بنون، إلّا من أتى اللهَ بقلبٍ سليم..
بقلم/ عبدالسلام فايز