التطورات الدراماتيكية المتسارعة تُقحم الفلسطينيين مجددا في دوامة فوضى الربيع العربي في مرحلته الثانية – انتقاله للخليج وإيران - وذلك من خلال إدراج حركة حماس ضمن جماعات الإرهاب والتركيز على علاقتها بقطر التي اصبحت مصدر وعنوان الإرهاب في المنطقة ،الأمر الذي سيؤدي لأن يدفع الفلسطينيون الثمن مرتين .
اليوم نشهد سرعة تفكك تحالفات وصداقات وتشكيل أخرى ،ويتحول حليف الأمس إلى عدو اليوم ،بحيث بات من الصعب أن تعرف مَن حليف مَن ؟ومَن يقاتل مَن؟ فالتحالف بين دول الخليج وواشنطن لدعم (الربيع العربي) أخذ يتضعضع بعد أن استنفذ أغراضه وانكشف مستوره ،والحلف الذي شكلته السعودية للحرب على اليمن بات مقتصرا على السعودية تقريبا ،ومجلس التعاون الخليجي يتفكك ،في مقابل ذلك تبرز تحالفات جديدة ما بين غالبية دول الخليج ومصر ودول أخرى من جانب وواشنطن وتل أبيب من جانب آخر ،وحلف قيد التَشكُل ما بين قطر وإيران وتركيا والإخوان المسلمين ،ولم تعد القاعدة وتنظيم داعش والنصرة وعشرات الجماعات المتطرفة مصدر الإرهاب ،وحل محلهم إيران وجماعة الإخوان المسلمين وحركة حماس ،ويتم إقحام فلسطين عنوة في هذه الفوضى المدمِرة من خلال اتهام قطر بدعم حركة حماس ،وتصنيف هذه الأخيرة كحركة إرهابية ،في مقابل انتقال إسرائيل من معسكر الأعداء إلى معسكر الحلفاء .
وسط كل ذلك وبقدرة قادرة يُعاد تشكيل المشهد والرواية ليصبح كل ما يجري هو من صناعة العرب أنفسهم ونتيجة تآمرهم على بعضهم البعض،إما التآمر القطري ودعم وتمويل قطر للإرهاب ،وإما التآمر السعودي الإماراتي ودعمهم وتمويلهم للإرهاب ونشر الأولى للفكر الوهابي كمصدر كل إرهاب إسلامي ! ،أو جماعة الإخوان المسلمين وحركة حماس ،أو الدين الإسلامي بذاته كدين يرفض الآخر ويحض على العنف والكراهية ،أما واشنطن وإسرائيل فهم براء من كل ما يجري ! وتحولت واشنطن إلى مجرد وسيط لحل الخلافات بين الأنظمة العربية وخصوصا الخليجية ،ومنقذ للعرب من شرور أنفسهم ! .
تطورات الأحداث مؤشر جديد على نجاح الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة ،فبعد أن نجحت واشنطن في نشر الفوضى في العراق وسوريا وليبيا واليمن ودمرت هذه الدول بأموال الدول الخليجية ،تنتقل اليوم لتنفيذ المرحلة الثانية من استراتيجيتها وذلك بنقل (الفوضى الخلاقة) إلى دول الخليج نفسها وإيران ،لتستنزف مزيدا من أموال الخليج ولتستمر في إبعاد الأنظار عن إسرائيل وسياستها الاستيطانية .
الخطورة في كل ما يجري ليس فقط تبرئة واشنطن من المسؤولية عما يجري في المنطقة لتصبح قطر هي المسئولة ،بل تحويل إسرائيل من عدو إلى صديق وحليف للدول العربية والإسلامية المشاركة في التحالف الجديد والتطبيع معها ،وتصنيف حركة حماس كحركة إرهابية ،مما سيُثقِل على النظام السياسي الفلسطيني وعلى القيادة الفلسطينية وكيف ستتصرف حيال ذلك ، أيضا تأثير ذلك على الأوضاع في قطاع غزة .
لا شك أن قطر لعبت دورا مركزيا في فوضى الربيع العربي ودعم جماعات العنف والتطرف ،سواء من خلال التمويل المالي واللوجستي أو من خلال فضائية الجزيرة ،وقطر كانت وراء تشجيع حركة حماس على الانقلاب على الشرعية الفلسطينية ،واستمرت قطر بالتحريض على النظام المصري ونعته بالنظام الانقلابي ،واحتضانها لشخصيات وجماعات معارضة لحكومات عربية وتحرض عليها ،كما وظفت قطر حركة حماس لمماحكة مصر واستفزازها ،وقطر تقربت لإيران واستفزت بذلك السعودية والبحرين والإمارات الخ .
ولكن ، كانت قطر – ومعها دول أخرى - مجرد لاعب لدور ووظيفة في خدمة السيد الأمريكي وسياساته ،حتى وإن انتاب شيوخ قطر أوهام القوة ونشوة الانتصار وهم يرون الدول والزعماء الكبار يسقطون من حولهم ،ولم تكن قطر سيدا لأن اللعبة أكبر منها بكثير .
بالعودة لموضوع حركة حماس ، فبسبب ربط حركة حماس نفسها بقطر والإخوان المسلمين وإدارة ظهرها للمصالحة الوطنية في مراهنة منها على مخرجات (الربيع العربي) الواعدة بدولة الخلافة الإسلامية القادمة !دفع الفلسطينيون ثمنا باهظا في المرحلة الأولى من (الفوضى الخلاقة) وكان الانقسام وإضعاف النظام السياسي الفلسطيني برمته ووصول خيار المقاومة لطريق مسدود وحصار قطاع غزة ،واليوم وفي المرحلة الثانية من هذا المخطط فإن التركيز على حركة حماس وذكرها تحديدا كحركة إرهابية ومطالبة قطر بقطع العلاقة معها وطرد قادتها وحجز أموالها الخ ،إنما ينذر بأننا مقبلون على معادلة جديدة ستكون إسرائيل جزءا أساسيا فيها ،معادلة قد يدفع الفلسطينيون فيها ثمنا أكثر فداحة يتجاوز حركة حماس ليمس جوهر الحقوق السياسية الفلسطينية .
حتى يمكن تدارك الأمر بأقل قدر من الخسائر وتجنيب حركة حماس وقطاع غزة مخاطر كبيرة ،ولقطع الطريق على الدول التي تريد توظيف علاقات حماس الخارجية لتصفية حسابات مع الشعب والقضية الفلسطينية ،على حركة حماس أن تعتذر للشعب وتتراجع عن إجراءاتها الانفصالية وتمكين حكومة الوفاق الوطني للقيام بمسؤولياتها في قطاع غزة ،ولنرى ما الذي يمكن للحكومة وللرئيس أبو مازن فعله .
بقلم/ د. إبراهيم أبراش