تعتبر الخدمات الصحية التي تقدمها أي دولة لمجتمعها مقياس لمستوى تطورها وتحضرها، فكلما تحسنت جودة الرعاية الصحية والخدمات المقدمة للجمهور، وزاد الاهتمام بصحة الانسان حدثت التنمية البشرية، باعتبار الصحة أحد معاييرها، وفي تحليل لواقع الصحة في المنطقة العربية نلاحظ انه لا زالت الحواجز التي تعرقل إتاحة الخدمات الصحية بالمستوى المطلوب، لاسيما للفقراء والمحتاجين، يرتبط بالعديد من الاسباب وأهمها طبيعة العلاقات بين العاملين وإدارات العمل، وعدم الاستقرار بينهم، وللتركيز والتحرك الفعال لتحسين جودة الخدمات والنهوض بها وتطويرها، لقد باتت هناك حاجة للتوجيه والارشاد في هذا المجال لخلق حالة من التوازن بين الواقع، وما هو متوقع؟ من خدمات في ظل ازدياد الامراض وخاصة المزمنة، وارتفاع تكاليف العلاجات الجديدة، وتزايد طلب الجمهور للحصول على رعاية صحية بجودة عالية ومميزة، وهذا يشكل ضغط على كل الحكومات، لضرورة وضع سياسات صحية تتسم بالحكمة والعقلانية لتطوير الصحة نحو الافضل وتجويد خدماتها، وهذا يحتاج البحث عن السبل الاكثر تأثير في ذلك، وأهمها تحسين الفرص والكفاءة للخدمة، والتي تعتمد على الامكانيات المتاحة ، وعلى الموارد البشرية العاملة فيها بالدرجة الاولي، فكل الانظمة الصحية في أي مكان تستطيع أن تستفيد من موارها البشرية بشكل أفضل من خلال اتباع سياسات جديدة؛ تبني على قاعدة الشراكة والحوار والتعاون بين الادارات الصحية والعاملين، والتي تقوم على التشجيع والتحفيز على العمل بتوفير العمل اللائق، والحماية الاجتماعية والقانونية للعاملين، بتحسين ظروف وشروط العمل، وتوفير بيئة العمل الامنة المناسبة..
تشير معظم الدراسات التي أجريت عن الواقع الصحي في العديد من الدول النامية حول واقع العمل الصحي، وضعف الخدمة وتراجع جودتها، يعود لأسباب تتعلق بارتفاع التكاليف وشح مصادر التمويل، ولعدم الاهتمام بالعاملين وحالة القهر التي يتعرضون لها في العمل وغياب الاهتمام بالإنسان العامل وحقوقه، وعدم مراعاة دوره وأهميته في عملية تطوير وتحسين الخدمات، والتنكر لحقوقه؛ حيث اعتمدت معظم خطط التطوير، على تحسين مصادر التمويل وتخفيف النفقات والمصاريف وكانت دائما الاولوية، والتي يتضرر منها في معظم الاحيان العاملين بتخفيض أجورهم وزيادة ساعات العمل وحرمانهم من أي امتيازات...
بتقديري هذا يشكل العقبة الاولى أمام تلك الدول لتنمية وتطوير وتحسين جودة الخدمة الصحية، فمن غير المنطقي والمتوقع أن يحدث تقدم في الرعاية الصحية وخدماتها، العاملين فيها مقهورين ومحرومين من الحقوق الامتيازات، وبيئة عملهم غير لائقة، ولا ترقى لطبيعة الدور والوظيفة التي يقومون بها ويشغلونها، فعدم تكافؤ الخدمة المقدمة مع الحقوق المترتبة عليها ينعكس حتما على الاداء والمهمة الموكلة للعاملين، من هنا وعند الحديث عن تحسين مستوى الصحة يجب ان لا يغفل راسموا السياسات وواضعي الخطط التطويرية العنصر البشري، فهو عصب علميات التغيير والتطوير لأي عمل، وخاصة العاملين في المجال الصحي، فكلما تطورت قدراتهم ومهاراتهم، واتسعت أمامهم الخيارات وشعروا بالاستقرار تحسنت النتائج المتوقعة على مستوى الاداء ونوعية وجودة الخدمة التي يقومون بها، فأي استراتيجية فعالة لتحسين الواقع الصحي وجودته، تحتاج للتعاون بين أطراف العمل (العاملين والمشغلين)، وعلى أن يقوم هذا التعاون على قواعد عادلة ومشروعة، ويأتي ذلك من خلال الحوار الفعال والمتكافئ بين ممثلين العمال في النقابات والادارة التشغيلية وممثليهم، فكلما كانت علاقات العمل متوازنة وجيدة ويسودها التفاهم والتكامل في الادوار اتسمت بالاستقرار والتقدم، فمهما كانت بيئة العمل معقدة، الا أن التفاعل بين الاطراف يساعد في مواجهة التحديات والمعوقات، ويساهم في الاستثمار الامثل للفرص وتحقيق تقدم وتنمية في العمل وتطوير، فالهدف من إحداث التوازن بين اطراف العمل الوصول لحالة من التفاعل البناء، والمؤثر ايجابيا على تحسين جودة الخدمات الصحية من ناحية واستقرار العمل من ناحية ثانية، فجميع البلدان التي تسعى لتحقيق التنمية البشرية تدرك انه لا يمكنها أن تتخذ خطوات فعالة نحوها الا بترسيخ قيم ومفاهيم التعاون والشراكة بين اطراف الانتاج وتخفيف حده الصراع بينهما على ارضية المصالح المشتركة، والتي تعتمد في سياساتها على جملة من المعايير والبرامج والخطوات التي من خلالها يمكن احداث تقدم بالخدمات الصحية وتحقيق الانجازات المنشودة، وذلك بحماية العاملين من أي مخاطر ومن النصائح العملية لتحقيق ذلك يجب مراعاة التالي:
- تشجيع الحوار بين أطراف الانتاج على قاعدة الشراكة والتعاون في مواجهة التحديات والنهوض بالواقع نحو الافضل، ويأتي ذلك بمشاركة العاملين وممثليهم في رسم السياسات الصحية ووضع الخطط التطويرية للعمل، وحماية حقوقهم من أي انتهاكات.
- العمل على توفير بيئة عمل مناسبة وامنه، وتحسين ظروف وشروط العمل والالتزام بمعايير العمل اللائق وتحسين الاجور بما يكفل حياة كريمة للعاملين وأسرهم.
- ضرورة العمل المستمر على رفع كفاءة ومهارات العاملين المهنية والعلمية في المجال الصحي من خلال التدريب والتمهير.
- ضرورة إعطاء مساحة أكبر للعمل النقابي في بيئة العمل، حيث يلعب دور فعال ومؤثر وذو كفاءة عالية في التأثير على العاملين ايجابيا، وهذا ينعكس على مهاراتهم وتحسين جودة الخدمات الصحية التي يقدمونها للجمهور.
- الاستفادة من التجارب والنماذج التي حققت انجازات وخطوات عملية في تحسين خدماتها الصحية عبر اتفاقيات عمل جماعية وقعت بين أطراف الانتاج خلقت حالات من التوازن في العلاقات وانعكست على العمل وساهمت في تحسين جودته.
أخيرا لا يمكننا الحديث عن النهوض بالعمل الصحي وبالخدمات المقدمة للجمهور، وتحسين جودتها والنهوض بالواقع الصحي العاملين يعانون من عدم الشعور بالاستقرار والامن الوظيفي، وما زالوا يتعرضون للاستغلال والحرمان، فخصوصية العمل الصحي، والذي يعتمد كثيرا على العنصر البشري في القيام بمهمته، وهم العاملين الذين يقدمون الخدمة مباشرة للمواطن، وتحسين الخدمة يعتمد على مدى شعوره الارتياح والاستقرار بالعمل، لذا يجب الاهتمام دائما بهذا الانسان العامل وصحته النفسية والاجتماعية والبدنية ليستطيع أن يقوم بواجباته ويقدم أفضل ما عنده، ويتناغم ذلك مع قدرته على تحقيق متطلبات الحياة له ولأسرته وبما يحفظ كرامته وانسانيته.
• بقلم / د. سلامه ابو زعيتر
• رئيس النقابة العامة للعاملين في الخدمات الصحية