الارتباط واضح جدا: بين الاهتمام بمفاتيح وأدوات وموارد العمل البشرية نفسها، من من تربويين ومديرين ومعلمين، وبين إحداث إنجازات إيجابية لها صفة التراكم النوعي والإبداعي، تماما كما هو الحال في العمل السياسي الذي يهدف تحقيق اختراقات في ظل ظروف بالغة التعقيد.
الهدف السامي والإنساني والتربوي واضح: النهوض بالعملية التربوية، بما يضع خريجينا وخريجاتنا في التعليمين العام والعالي على سلم النماء، والقدرة على التنافس، وتقديم خدمات نوعية إبداعية للمؤسسات، وبالتالي للمجتمع في ظل الوعي والإخلاص الوطني.
ترى أين نموضع أنفسنا في الإدارة التربوية وغيرها عالميا؟ وكيف نقارن متابعتنا وتقييمنا مع الآخرين؟ أين المتشابه وأين المختلف؟ الإجابة عن ذلك يمكن أن تساهم في اقتراح حلول إبداعية للإدارة، وبالتالي للعملية التربوية بشكل خاص وللإدارة والحكم في بلادنا بشكل عام.
تعدّ التنشئة الفكرية والسلوكية من التحديات الرئيسية التي تواجه القيادة التربوية، خصوصا في التعامل مع قيم تبدو متناقضة، مثل: الصالح العام والحقوق الفردية، الرعاية والقواعد، الولاء والعدل، البلاغة والواقع، الخدمة والعقلانية الاقتصادية، الوضع الراهن والتنمية، الأهداف طويلة الأجل والأهداف القصيرة الأجل.
في هذا الصدد، قام فريق من الباحثين من الجامعة الكاثوليكية الأسترالية بإجراء دراسة لهذه القضايا قبل أكثر من عقد من السنوات، بين (2002-2005)، حيث قاموا بمراجعة البيانات التي جمعوها من المسؤولين العاملين في المجالات التربوية وغيرها. وخلال ذلك عبأ حوالي 400 مسؤول منهم استبيانات حول المواضيع المتصلة بالقيادة والأخلاق، ثم استخدمت نتائج هذه الاستبيانات في وضع أسئلة حول المفاهيم الرئيسية؛ لإجراء مقابلات مع 40 مسؤولا منهم، والذين طلب منهم أيضا كتابة تقارير حول قضايا قاموا فيها باتخاذ قرارات تتعلق بالأداء والسلوك، حيث قدّم 55 منهم وصفا للقضية والأطراف المشاركة فيها، والعمليات التي انطوت عليها، والنتائج المترتبة على القرار. ثم استخدمت مجموعة متنوعة من الأساليب الكمية والنوعية في تقييم هذه البيانات، وأخيرا ناقش المشاركون المواضيع في غضون ثلاثة أسابيع من خلال منتدى على الإنترنت. وهذا ملخص للدروس المستفادة من النتائج، والتي تركّز على منطلقات تلك القرارات كمبادئ توجيهية:
1. تختلف القرارات تبعا لاختلاف الأشخاص المعنيين وطبيعة الظروف المخففة.
2. التعامل مع التوتر المرتبط بالناس هو تعامل غير نمطي، فكل إنسان يشكّل حالة فريدة.
3. يفضل كثيرون عدم اتخاذ قرارات لحل مشكلات معقدة، لذلك تزداد سوءا.
4. يسهل على المسؤول تجنب الحزم في اتخاذ قرارات بحق الموظف صاحب الأداء المتدني، فإذا كان أسلوب المسؤول انسحابيا، فإن عليه البحث عن حلول للحالة.
5. من الأفضل التعامل مع الوضع المتوتر باستخدام النهج العقلاني القائم على "كلا من/و" وليس "اما ... او"
6. ينبغي أن ينسجم المسؤولون في تصرفاتهم مع رؤاهم الفكرية والأخلاقية، خصوصا في أوقات التوتر والاشكاليات.
لذلك فإنه في أستراليا، بلد الدراسة، ووفقا لمنهج المتابعة والتقييم، فإن المسؤولين المتميزين يركزون على قضايا الأخلاق والقيم، وعلى اتخاذ القرارات الصحيحة، ويستندون في قيادتهم على الأمانة والمصداقية، وهم يتميزون باتجاهات قيم واضحة، يتمسكون بها في حياتهم المهنية. كما يتميزون أيضا بقدرتهم على رفع الروح المعنوية لمن حولهم؛ مما يساهم في تطوير دائم للبيئة التربوية.
ويواجه المسؤولون تحديا يتمثل في بناء ثقافات يشعر فيها جميع الموظفين بقيمتهم، ودورهم في قيادة المؤسسة. ولذلك فهم بحاجة إلى المعرفة والفهم والمهارات اللازمة لإدارة مسؤولياتهم وحل المشاكل المعقدة، حتى يطبقونها بفعالية. ويتمثل التحدي الأكبر أمامهم في استمرار تطوير قدراتهم وقدرات من حولهم حتى تتجاوز المؤسسة أي عوائق، باتجاه تحقيق أهدافها.
فلسطينيا وعربيا، دعونا نفكّر قليلا، من خلال فقط طرح بعض الأسئلة:
- هل هناك إجماع ما على القيم والأفكار؟ وما دورنا في التربية على القيم المعاصرة؟ وهذا يعني التفكير النقدي العميق بين الاختيار بين التربية التقدمية وتلك السلفية المتقادمة.
- أولى بدايات التطوير هو النقد الذاتي، من خلال بيان الإيجابيات والإخفاقات، فهل سنشهد تطورا في لغة الخطاب التربوي الفلسطيني أسوة بهذه التجربة البحثية من استراليا وغيرها؟
- ما هي مواصفات القيادة التي تريد إحداث التغيير؟
- ترى ما المسافة المعقولة اجتماعيا بين المعلم والطلبة؟ وكيف نساهم في تخفيف اغتراب الطلبة داخل المدرسة؟
- يرتبط بذلك المسافات بين مقدمي/ات العمل التربوي، لتخفيف الاغتراب بينهم أيضا.
ترى أين نموضع أنفسنا في الإدارة التربوية وغيرها عالميا؟ وكيف نقارن متابعتنا وتقييمنا مع الآخرين؟
فلسطينيا، من دواعي سرورنا أن نظامنا التربوي الفتي قد انتبه إلى "المتابعة والتقييم"، حيث يتم عمل استبيانات للموظفين وغيرهم، حول الرضا الوظيفي، وأمور لها علاقة بما يسمى بالحوكمة والإدارة، والمطلع على التقارير الدورية، يجد أن هناك شفافية في العرض، خصوصا في كيفية رؤية المرؤوسين لأنفسهم ولرؤسائهم، وعلاقة ذلك بالعمل نفسه. تلك بذور ديمقراطية وتربوية ينبغي التعاطي مع نتائجها، لتحقيق المزيد من الاستقرار النفسي لهم/ن، وبالتالي لدى الطمعلمين والطلبة.
ونحن نفكّر معا، أحب أن أشير إلى قضية مهمة لفتت نظري في البحث، لها علاقة بتكوين المتعلمين، الذين يعيشون في المجتمع في عصر جديد، حيث أن العملية التربوية تمرّ وتتم ببطء، إضافة الى وجود منافسين أقوياء للمدارس، تتمثل بوسائل الإعلام، كالتلفزيون والانترنت، وهي بما تملكه من عوامل جذب، تجذبهم إلى عوالم أخرى لها علاقة بسياق العصر، أكثر من وسائل المدرسة التقليدية، مما يعني ان يركض المعلمون وراء الطلبة.
وقد عبر البحث عنها من خلال الحديث عن التنشئة الفكرية والسلوكية "كتحد يواجه القيادة التربوية، خصوصا في التعامل مع قيم تبدو متناقضة"، حيث أنها في الحقيقة غير متناقضة، بل متكاملة، إلا أن التربوي التقليدي يريد ان يطمئن على تعميق المسؤولية لدى الناشئة تجاه المجتمع، فينظر تجاه نزعات الطلبة الفردية نظرة قلق، خشية عليهم من العصر، أي أن التربية التقليدية تستخدم الأسلوب الكلاسيكي في حياة معاصرة، تغيرت فيها النظرة تجاه الفرد والمجتمع، فالطلبة أكثر ميلا لما يهم مراحلهم العمرية، أكثر كثيرا من الشعارات والكلام البليغ.
كما ظهر أن من الضروري أن يكون التربوي صريحا في تناول قضاياه المهنية، وهذا ما لمسناه لدى الباحثين ولدى المبحوثين معا، خصوصا أن العملية التربوية قائمة على الأطفال، من خلال الشراكة بين الإدارات التربوية بمستوياتها المتعددة هرميا، وبين المعلمين. وهذا ما لمسناه في البحث الذي كانت نتائجه صريحة للغاية، بل كأنها تنتقد الإدارات التربوية، وتستفزها باتجاهات التطوير والجدية، وعدم تعويم الأمور، خصوصا مع الكادر العامل.
الفكرة المهنية المهمة في البحث هي أن هناك ضرورة لتكامل القيم مع المهارات لدى القيادات التربوية، ولا يمكن ضمان مخرجات تربوية فاعلة إذا لم يتم توفير كادر متمكن من المهارات العملية.
ولا شك أن ذلك يصلح لكل زمان ومكان، ويمكن فعلا الاستفادة به في بلادنا العربية وفي فلسطين بشكل خاص، في ظل التحولات التي يشهدها المجتمع الفلسطيني منذ الانتفاضة الأولى وما خلخلته من قيم تقليدية، حيث سادت تحولات فكرية وسياسية، مرورا بالتحولات الاجتماعية والاقتصادية في مرحلة تأسيس السلطة الوطنية، والتي ما زلنا نعيشها، وصولا إلى حالة العنف السياسي بين الفصائل وتشظي المجتمع، والذي ينعكس بالضرورة على الأطفال والمعلمين والإدارات والمجتمع بشكل عام.
فالطفل/ة والفتى، هما مخرجان للمجتمع الكبير وليس فقط مخرجين للمدرسة والجامعة. من هنا فإن وعي التربويين على هذه الإشكالية يمدهم بنظرة إستراتيجية استشرافية لما نود أن نحضّر الطلبة له: للمستقبل.
أمر آخر، يخص المجتمع الفلسطيني كمجتمع عربي، ما زال يعاني من كونه أبويا وبطريركيا وذكوريا وتقليديا ومحافظا، ما زال يستخدم وسائل قديمة في التربية، رغم تغيير المناهج الفلسطينية، حيث يركّز المعلمون والمديرون على جوانب سلوكية، بحيث تراهم حسّاسين لتصرفات الطلبة. والأفضل هنا منح الطلبة المزيد من الحرية، والتعامل الإنساني مع القيم، بدون الإجبار، بحيث ينبع الدافع من داخل الطلبة. إن شرعنة خيارات الطلبة وتقبلها يجسّر الفجوة بين المدارس والطلبة، ويجذبهم تجاهها ولا ينفرهم.
نحن هنا بحاجة لمثل هذه الصراحة، والنقاش المجتمعي والحكومي والتربوي، فنحن ي زمان ومكان متوتر أصلا بسبب الاحتلال، ثم بسبب التحولات الداخلية لمجتمعنا الفلسطيني، ثم بسبب التحولات التي أصابتها العولمة.
لذلك، فإنه برغم ضرورة الاهتمام بالتربية الوطنية والتربية على المصلحة العامة، والولاء الوطني، فإن هناك ضرورة في إكساب الطلبة مهارات القرن الجديد حتى لا يغتربون.
فنحن بحاجة لذلك أكثر من الاستراليين.
ومعنى ذلك، ألا تترك العملية التربوية للتربويين فقط، بل لا بدّ من إشراك المؤسسات والقوى الأخرى لتكون رديفا للتربية والتعليم.
ولكن للأسف، فبرغم أن التربية والتعليم قطعت مسافة من التطوير منذ عام 1994، إلا أن الأسئلة والقضايا المهمة ما زالت غير مطروقة بقوة، حيث اتجهت الجهود لرأب الصدع في التعليم التقليدي نفسه، والتأكيد على تعليم المباحث.
ما زال التربويون يطمئنون على فهم الطلبة للمفاهيم العلمية أكثر من الاهتمام المنهجي بالتكوين النفسي والاجتماعي والثقافي للطالب. ويتم التعامل مع التربية على القيم من خلال الترهيب والترغيب، بدلا من الانطلاق من داخل النفس. ولهذا الهدف، فإن الاهتمام بالموظفين هو أمر استراتيجي كونهم الوسيلة البشرية لإحداث التغيير.
الارتباط واضح جدا إذن بين الاهتمام بالمتعلم ومن يتصل به من بنى إدارية وتعليمية؛ فوجود أسرة متحابة تشعر بالعدالة والأمن الوظيفي، وعدالة التقييم تعني الاندفاع بكليتها شعوريا وفكريا في التعليم الجاد والنوعي.
ولا انفصام أيضا التربية والحكم، حيث أن الإبداع في العمل السياسي وشؤون الحكم، تدفع بالحكام الموهوبين والمحترفين/ات، إلى إيلاء التعليم أهمية خاصة، لا تنبع فقط، كما هو سائد في الحكم التقليدي، من جعل التعليم عملية لترسيخ الوضع القائم بل وإعادة إنتاجه، بما يخدم طول عمر النظم الحاكمة.
الخلاص هو وطني وتربوي، لا خلاص لأهل الحكم والإدارة. لا يمكن أن يكون الخلاص فرديا!
وأخيرا لا ينبغي التعامل مع التوترات المختلفة بطرق ومناهج متوترة، بل ينبغي إبعاد التوتر، وجعل الطلبة والمعلمين يعملون في جو مستقر ومحبب.
بقلم/ تحسين يقين