القضية أكبر من حفنة دولارات

بقلم: علي الصالح

يجب أن ندرك انه أيا كانت التنازلات التي يقدمها الفلسطينيون، لن تكون بمستوى طموحات بنيامين نتنياهو، التي لا سقف لها.. فالمعركة بالنسبة له ولغيره في المؤسسة الحاكمة في دولة الاحتلال، ليست معركة حول حفنة من الدولارات، تدفع للأسرى وأسر الشهداء والجرحى، وليست معركة حول بضع كيلومترات هنا أو هناك، إنها معركة القصد منها الإمعان في إذلال وطمس ومسح تاريخ شعب بأكمله.. إنها معركة وجود، فهو يدرك جيدا أن مجرد وجود الشعب الفلسطيني متماسكا، خطر على وجوده ووجود دولته.. طال الزمن أم قصر.
فحذارِ اذن، من الوقوع في شرك نتنياهو وطغمته، فهمهم الوحيد زرع الفتن وتفتيت مركبات ومكونات الشعب الفلسطيني وتاريخه النضالي، والاستفراد بها واحدة تلو الاخرى، وفي مقدمتها الاسرى والشهداء والجرحى وأسرهم، الذين هم من سطروا ويسطرون تاريخ هذا الشعب. ومطالبته بقطع مخصصاتهم، ما هي إلا مقدمة لوصم قرن كامل من التاريخ النضالي والمقاوم للشعب الفلسطيني بالإرهاب.
إن الاسرى والشهداء والجرحى مكون أساسي من مكونات ومركبات العمل الوطني الفلسطيني، ولبنة من لبناته الأساسية، وبدونهم لا وجود للتاريخ النضالي والوطني للشعب الفلسطيني، وأي إخلال بهذه المعادلة يعني انهيارا حتميا وجريمة لا تغتفر بحق مجمل العمل الوطني وفصائل العمل الوطني والإسلامي، وجامعة هذا العمل الوطني ممثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية على علاتها. إن هذه القضية لا بد أن تكون خطا احمر، لا يسمح بالاقتراب منه. وقطع مخصصاتهم أو التعدي على حقوقهم هو اخلال بالمعادلة وتجاوز للخط الاحمر.
هذه المخصصات لا هي هبة ولا منة من أحد، إنها حق مستحق للشهداء والاسرى والجرحى وأسرهم، فهم من قدموا أرواحهم وسنين من أعمارهم، وأجزاء من أجسادهم فداء للوطن. هذه المخصصات لا تقبل المساومة وغير قابلة للتفاوض أيا كانت النتائج، وإن من يمس بها أو يحاول المساومة سيكون خارجا عن الإجماع الوطني.. وقطعها يمثل تنازلا عن القضية الوطنية بمجملها. ولا أعتقد أن هناك مسؤولا فلسطينيا صغرت مسؤولياته أو كبرت، يمكن أن تسول له نفسه أن يقدم على مثل هذه الخطوة.
ما استدعى هذا الكلام هو ما نقلته صحيفة "هآرتس" من قول لوزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون، في الاسبوع الماضي، حول وعد تلقته إدارة ترامب من السلطة الفلسطينية، بوقف رواتب ومخصصات أسر منفذي العمليات ضد "إسرائيل"، وأسر الشهداء والجرحى، التي يقدمها الصندوق القومي لمنظمة التحرير الفلسطينية. هذا يعني أن واشنطن التي تسمح لإسرائيل بمواصلة الاستيطان، وارتكاب الجرائم بشتى اشكالها، تضغط على السلطة الفلسطينية للرضوخ للمطالب الاسرائيلية، مقابل وعود بسلام كاذب من إدارة دونالد ترامب، الذي لا يضمن شخصيا بقاؤه في البيت الأبيض، وهذا ما تتوقعه النائبة الديمقراطية المخضرمة في الكونغرس دايان فاينشتاين، ولا اقول إن حظنا كان أفضل في زمن الادارات السابقة، لذا فحذارِ أيضا من الوقوع فريسة التهديدات بقطع الملاليم التي تقدمها واشنطن.
علمتنا التجربة، بل التجارب المريرة على مر السنين وعلى وجه الخصوص بعد اتفاق اوسلو المشؤوم عام 1993، أن لا حدود ولا نهاية للمطالب الاسرائيلية من الفلسطينيين، ومن يعتقد أن مطلب وقف مخصصات الأسرى وأسر الشهداء، هي اخر المطالب، فهو بالتأكيد يحتاج للعودة إلى مقاعد الدراسة في العلوم السياسية والتفاوضية، وفي تاريخ الكيان الصهيوني، فالمقبل من المطالب أكبر وأعظم.
ما يرمي إليه نتنياهو، كما اسلفنا، ليس تلك الصغائر رغم اهميتها المعنوية، بل تلطيخ تاريخنا ووصم نضالات شعبنا وتضحياته بالإرهاب، في ظل الهجمة المتواصلة على الشعب الفلسطيني، التي انضمت اليها بعض الابواق العربية بإلصاق تهمة الارهاب بحركتي حماس والجهاد الإسلامي، كخطوة اولى لتلطيخ مجمل الحركة الوطنية الفلسطينية، بما فيها حركة فتح وبقية الفصائل، وسحب البساط من تحت أقدام مشروعنا الوطني.
وليس اعتراض نتنياهو على دفع المخصصات فحسب، فهو لا يريد لهذا الشعب أن يخلّد ذكرى ابطاله، ممن ضحوا بحياتهم وبسنين عديدة من أعمارهم واجزاء من اجسادهم.. وهو ايضا يريد لهذا الشعب ألا يتذكر تاريخه وأبطاله. ويعتبر تسمية ميدان في اي مدينة أو بلدة فلسطينية، باسم شهيد من شهداء فلسطين، تخليدا لـ"الارهاب".
كتب نتنياهو تغريدة وصف فيها الرئيس ابو مازن بالكذب والتحريض على قتل اليهود. وقال إن من يمجد ويفتخر بمنفذي عملية، قتل فيها 36 اسرائيليا عام 1974، في إشارة إلى تسمية ساحة عامة في جنين باسم الشهيد القيادي في الجبهة الديمقراطية خالد نزال، هو أمر يشجع الشباب الفلسطيني على قتل اليهود، وهذا ليس فعل سلام ويثبت عقلية وحقيقة الفلسطينيين وعدم رغبتهم في السلام، بل هو أمر يثبت كذب عباس.
وحرض نتنياهو مملكة النرويج على السلطة الفلسطينية، بالادعاء أن أموال المساعدات التي تقدمها، تنفق على دعم الإرهاب، ودفعها إلى مطالبة السلطة باعادة اموالها التي انفقت على مركز نسوي أسس في قرية برقة شمال مدينة نابلس، والسبب هو إطلاق اسم الشهيدة دلال المغربي على  المركز.
من حق دلال المغربي علينا نحن الفلسطينيين، أن نخلد ذكراها وذكرى غيرها من الشهداء، الذين قضوا على درب الثورة. وللتذكير فقط فإن دلال قادت، وهي ابنة العشرين ربيعا، مجموعة من13 فدائيا في عملية انزال على شاطئ تل ابيب هي الأجرأ، بهدف تحرير عدد من الفدائيين الاسرى. وكان ذلك في 14 مارس 1978. وتمكنت المجموعة من السيطرة على حافلة على متنها 68 راكبا، والتوجه إلى مبنى الكنيست في تل ابيب، قبل نقله إلى القدس المحتلة في زمن السلام العربي، واستشهدت دلال مع بقية رفاقها الـ13، في معركة استمرت ساعات طويلة، وكان خصمها فيها قائد جيش الاحتلال في حينه ايهود باراك، الذي أصبح في ما بعد وزيرا للحرب، ثم رئيسا للوزراء، مكبدة قوات الاحتلال اكثر من30 جنديا قتيلا ونحو 70 جريحا.
وباراك هو نفسه الذي قاد العملية الارهابية في بيروت عام 1973، ضد ثلاثة من قادة المقاومة وهم، كمال عدوان وكمال ناصر ومحمد يوسف النجار، وهو نفسه الذي قاد العملية الارهابية لاغتيال ابو جهاد (خليل الوزير) في منزله في تونس عام 1987، انتقاما لعملية شاطئ تل ابيب التي خطط لها.
نتنياهو لن ييأس وسيواصل القاء قنابله الصوتية وتوجيه "اللطشات" المتتالية، بغرض مواصلة الضغوط واخلال توازن الفلسطينيين، ووضعهم دوما في خانة الدفاع ورد الفعل. وتتزايد مطالبه عادة عشية زيارات المسؤولين الامريكيين، لغرض صرف الانظار عن الهدف الاساسي من هذه الزيارات، وإدخال السلطة في معارك جانبية. وزيارة جاريد كوشنر صهر الرئيس ترامب وغيسون غرينبلات مسؤول ملف عملية السلام (وهما يهوديان متدينان) ليست استثناء.
واختتم بالقول إن ما يطمح إليه نتنياهو وطغمته الحاكمة، وحتى ما يسمى جزافا اليسار في اسرائيل، هو أن يغيب الشعب الفلسطيني بتاريخه عن الوجود، أو في أسوأ الحالات بالنسبة اليه أن يراه مشتتا في مزارع "بلانتيشين" متناثرة، بالضبط كما كان السود الافارقة في الولايات المتحدة، يعيشون فيها عبيدا لحساب السيد الاسرائيلي مقابل المسكن والطعام والملبس ولا حقوق غيرها.
هذا هو ما يسعون اليه وبيدنا نحن أن نرضخ أو لا نرضح.. وبالتأكيد أن شعبا كشعب فلسطين ظل طوال عقود من السنين يرفض الخضوع والاستسلام والمساومة على حقوقه، وحافظ على وجوده لا ولن يرضخ وسيبقى يقاوم حتى ينال كامل حقوقه.


علي الصالح
كاتب فلسطيني من أسرة "القدس العربي"