نقاط جوهرية فلسطينية!!!

بقلم: رامي الغف

ترددت كلمة المصالحة الوطنية في الوطن الفلسطيني على الألسن، وشاعت في القنوات الفضائية الدولية والعربية والمحلية، وانتشرت عبر الأروقة السياسية والوطنية خلال السنوات العشرة الماضية ولا زالت، وبشكل جعلها تبدو وكأنها الأمل الوحيد المرتجى الذي سينتشل الوطن من الدوامة الجهنمية التي تجر به حثيثا إلى المجهول، يثير هذا الأمر تساؤلات عديدة ومعقدة، خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار انه ليس ثمة أحد يعلم ما الذي تعنيه هذه الكلمة في ظل الظروف غير الطبيعية التي يعيشها الفلسطينيون!

فالمصالحة بالبداهيات، هي الصلح بين طرفين متنازعين، وغالبا ما تعني وقف التناحر والمنازعة بينهما أكثر مما تعني تذليل الاختلافات وتقريب وجهات النظر المتنافرة مع بعضها، فلنتأمل الظروف الفلسطينية، ولنرى فيما إذا كانت تتطلب أي مصالحة ومن إي نوع، فما حدث في الوطن منذ عشرة سنين، هو سقوط شامل وسريع لكافة مناحي الحياة وخاصة للنظام السياسي، خسر خلالها الوطن آلاف الشهداء وعشرات الالاف من الجرحى والضحايا وضاعت منجزات وطنية طائلة، وعم الخراب الشامل، وانتكس تاريخ منير، وتقهقرت حضارة مجيدةت وكانت قد رافقت ذلك السقوط المذهل إحتلال حرق الأخضر واليابس وتسبب بكوارث بليغة لا زال الوطن الفلسطيني يعاني منه إلى اليوم.

وهنا لا نبالغ لو قلنا أن كل ما نجده اليوم هو مجرد شعارات ترفع من دون أي فعل حقيقي او تغيير للواقع المزري الذي لا يرغب أي مواطن فلسطيني باستمراره، فقد أوشك الصبر الفلسطيني على النفاذ وعلى القادة وأصحاب القرار تدارك الأمر وتجنب حصول سيناريو سيء ومفاجيء ليس في حسبان احد، فخدمة المواطن هو شرف لكل قائد أو صاحب قرار أو مسؤول وليس منه منهم عليهم، وتلمس معاناتهم واجب عليهم فدروس التاريخ كثيرة وحاضرة وعلى الجميع الاستفادة منها قبل ان ينفجر البركان في أية لحظة .

اين نريد ان نسير نحن كفلسطينيين ؟ وكيف نستطيع ان نصل سويةً كشعب في مسيرتنا المجتمعية نحو بناء قويم ضد كل أنواع السرطانات الخبيثة مثل الإحتلال والإنقسام والتشرذم والفساد وغيرهما؟ اسئلة جوهرية تطرح كل يوم، سأحاول ان اجيب على بعضها عسى ان تساعدنا نحن الفلسطينيين في تحديد معالم مسيرتنا الجماعية ونحن نواجه ازمات اجتماعية وامنية واقتصادية وسياسية منذ زمن ليس بالقصير.

كل يوم نشهد طرح مبادرات تسوية هنا او لقاءات وإجتماعات مصالحة هناك او غيرها من المسميات والمشاريع من أجل بناء وترميم المحطم من الوئام الاجتماعي بين مكونات الشعب الفلسطيني المختلفة. ولكي نحدد جميعاً معالم فلسطين المستقبل، أرى ان من الضروري ان ننظر للواقع من منطلقات مختلفة لم يتم تداولها بعمق بعد وتكون مكملة لما طرح سابقاً. هذه المنطلقات المعتمدة على بناء أسس جديدة للمجتمع الفلسطيني متعلقة بالسلام والوئام الاجتماعي وبناء الانسان وتبني العمل الجماعي واخيراً ترسيخ وحدة المسيرة بين أبناء المجتمع الواحد. ادناه تفاصيل هذه الأسس وقواعدها ومستلزماتها الاساسية الضرورية للوصول سويةً نحن الفلسطينيين، نحو فلسطين مشرقة بغدٍ جديد.

اولاً – سلامة المجتمع الفلسطيني :

ترسيخ منهجية تقاسم السلطات لاختلاف المهام التنفيذية والتشريعية والقضائية مع وحدة الهدف في بناء مجتمع سليم وقوي وتأكيد الانتقال السلمي للسلطة بعد إيضاح الأدوار والمسؤوليات لجميع السلطات، لخلق منظومة دولة تكاملية وليست تقاطعيه.
الإقرار بأن صندوق الاقتراع هو السيد والحكم.
نبذ العنف بجميع أنواعه والرجوع الى الحل السلمي اولا وأخيراً وتحريم الدم الفلسطيني.
الاتفاق على اعتبار الإنقسام والتعصب والعنف بكل وسائله ورما سرطانيا يجب استئصاله من الجسم الفلسطيني، ففلسطين المستقبل يجب ان تكون خالية من الأمراض الخبيثة والمعدية.
وحدة الوطن الفلسطيني وسيادة وسلامة أراضيه هدف يجب ان لا نختلف عليه ويتم تبنيه من كل ألوان الطيف السياسي والوطني كافة.
لا سيادة اعلى من سيادة القانون والقضاء.
تطهير جسد مؤسسات الحكومة من آفة الفساد الاداري والمالي والمحسوبيات والمنسوبيات حاجة وضرورة وطنية آنية ممكن الوصول لها لو قررنا ذلك.
تبني منظومات ادارية جديدة تنطلق من مبدأ محاسبة ومساءلة المسؤولين قبل غيرهم وعلى كافة المستويات.

ثانياً – تبني العمل الجماعي:

ايجاد قنوات تواصل مباشرة بين الفرقاء وخاصة القيادات الوطنية والسياسية والمجتمعية لكي لا يزداد الحال تعقيداً, وخصوصاً ان مجتمعنا الفلسطيني يبحث عن علاقات شخصية مباشرة مع الاخر كمقدمة لبناء الثقة بين كل الأطراف. ومن الضروري فتح قنوات مباشرة ومستمرة للقيادات السياسية والوطنية والمجتمعية والإعتبارية والنخب جنبا إلى جنب مع ممثلي الشعب في البرلمان لكي يكون الحوار مستمراً ويقلل من سخونتها اثناء الازمات.
العمل بجدية للوصول الى مفردات تعريفية مشتركة قدر الامكان وخصوصا فيما يخص امهات الازمات وذلك للسير نحو حل بعض التعقيدات الموجودة.
التمسك بمبدأ الوحدة الوطنية والشراكة والعمل المشترك في التداول بين الكل الفلسطيني مع ترك اي معادلة سلبية اخرى.
ايجاد قاموس سياسي واجتماعي جديد يضم مفردات ومعاني جديدة تجُسّد حقيقة الرؤى المشتركة لفلسطين المستقبل.
الاعتماد على منهجية الحوار كوسيلة لحل الخلافات مع التأكيد على قواعد معتمدة على أسس بناءة مثل احترام الاخر، او الحقيقة لا تختزل بشخص او طرف واحد، او يجب ان لا نكون سجناء الماضي في بناء مستقبلنا الفلسطيني سويةً الخ.
الابتعاد عن التفرد باتخاذ القرارات وترسيخ العمل الجماعي كثقافة أساسية وجديدة في المجتمع.

ثالثاً – ترسيخ الوئام الاجتماعي بين المكونات والقوى الفلسطينية :

ترك التصعيد الاعلامي ضد الاخر وإيقاف اتهامات الاخر بالعمالة واللاوطنية وغيرها من المفردات التي تزيد التعقيد وترسخ الحقد وتفسخ المجتمع وتنقل الأزمات الى الشارع.
اعتبار التنوع الديني والعشائري والقومي والفكري والتعددية الحزبية الفلسطينية – مصدر قوة وامتدادا طبيعيا لتاريخ وجغرافية ومستقبل فلسطين.
مع اعترافنا بان لكل نوع من التنوع الفلسطيني خصوصية وتركيبة وأعراف خاصة بها نجد من الضروري العمل على اعادة تلاحم كل مكون من خلال ميثاق شرف داخلي، بالإضافة الى العمل على إيجاد ميثاق شرف وطني عام بين كل مكونات الشعب الفلسطيني.
كل من يحمل الجنسية الفلسطينية له جميع حقوق وواجبات المواطنة، وتعتبر المواطنة الجينات الاساسية لبناء النسيج الاجتماعي لفلسطين المستقبل.
علينا الاعتراف بوجود أزمة ثقة كبيرة في فلسطين، لذلك يجب التركيز في التحرك على مسار إعادة بناء الثقة على ثلاثة محاور:

أ- إعادة بناء الثقة بين النخب والقيادات والكتل والفصائل والاحزاب السياسية فيما بينها في فلسطين.

ب- إعادة بناء الثقة بين الشعب الفلسطيني وما بين أصحاب القرار والمسؤولين والنخب والقيادات والكتل والفصائل والاحزاب السياسية والوطنية في فلسطين.

جـ- إعادة بناء الثقة بين مكونات وأطياف الشعب الفلسطيني نفسها بكل تنوعاتها.

يجب ان يدرك أصحاب القرار والقيادات السياسية التي تقود فلسطين ان التاريخ لا يرحم ولا يجامل ولا يمكن تحريفه لذلك يجب ان تكون النيات الصادقة موجودة لدى الجميع أبناء فلسطين المستقبل.

رابعاً – بناء الانسان الفلسطيني اولاً:

اعتراف كل الاطراف (ولو مع نفسها فقط) بأخطاء الماضي وذلك بعد مراجعة دورهم في العملية السياسية بعد عام حدوث الإنقسام في الوطن الفلسطيني، اذ بالمراجعة يحصل النمو والتقدم والإزدهار والتطور وتقل الأخطاء.
إعطاء اولوية في رعاية عوائل ضحايا الإنقسام وشهداء الإحتلال وضمان حقوقهم مع التأكيد على التعجيل برجوع المشردين الى ديارهم.
ضرورة ان تكون جميع المشاريع السياسية والاقتصادية والتنموية والاجتماعية والثقافية والأمنية المعنية بالدولة متجهة نحو بناء الشخصية الفلسطينية الجديدة التي تتبنى الوئام الاجتماعي والتسامح كروح لجسدها الذي يتعافى.
في حالة الخلاف يكون الاحتكام الى القواسم المشتركة والقدر المشترك من القيم الدينية والمثل والمبادئ التي لا خلاف عليها.

خامساً – وحدة المسيرة نحو فلسطين المستقبل:

البحث مع الاخرين داخل وخارج مكونهم عن المشتركات في الرؤى المستقبلية لكل طرف اتجاه فلسطين الغد.
الاتفاق على معالم برنامج سياسي مستقبلي للحكومة الفلسطينية ترسيخها وجعلها معالم مشروع بناء فلسطين المستقبل، هذا البرنامج يجب ان يتضمن أمورا جوهرية حان الوقت لإستثمارها والاتفاق على إيجاد الحلول الناجعة لها، وكيفية ادارة ثروات الوطن، وحفظ الأمن المحلي والوطني، وتعديل الدستور، والاتفاق على دور الدين في المجتمع، وإعطاء أولوية لمشاريع الشباب والمرأة والخريجين والعمال ودعم هذه الشرائح المهمة من الشعب الفلسطيني الخ.
العمل سويةً على عدم تدويل الامور قدر المستطاع وذلك لان ازدياد تدخل الاطراف الخارجية سيزيد من التعقيد، علماً ان الاطراف المحلية لن تزول نتيجة التاريخ والجغرافية وإهمالها لن يجني الكثير على المدى البعيد.
العمل سويةً على تحديد معالم خارطة طريق، ذي جدول زمني وتشريعي، لفلسطين لتصفير الازمات وحل عقدها.
الاتفاق بين الفرقاء السياسيين على البحث عن حل فلسطيني أولاً ومن ثم مد اليد للآخرين خارج الحدود لتقديم الدعم ان احتجنا عونهم.
اعتبار منهجية الحكم الرشيد كاستراتيجية ضرورية لإعادة بناء الدولة الفلسطينية على أسس علمية متضمنةً الشفافية والعدالة والمساواة والمساءلة والاستقامة والإدارة الرشيدة واحترام حقوق الانسان وحرية الرأي والتعبير كمرتكزات قوية تبنى عليها اجهزة وثقافة دولة فلسطين.
حماية تراث وتاريخ فلسطين مسؤولية ملقاة على الكل الفلسطيني.
احترام وحماية حرية الحركة للمواطن.
علينا ان نعمل سويةً نحو صنع السلام ضمن حدود الوطن الفلسطيني ومن ثم العمل على حفظه وأخيرا بنائه على أسس سياسية وأمنية واجتماعية صحيحة ومتينة.
يجب ان تكون هناك إرادة سياسية واجتماعية ووطنية للقيادات الوطنية والسياسية في فلسطين وجمهورها لإعادة بناء وطن عانى ولا يزال يعاني من تحديات وصعوبات اقتصادية وأمنية وسياسية واجتماعية وغيرها، ويجب ان تكون فلسطين هي القاسم المشترك لجميع التحركات والمبادرات في هذا الشأن.

ضروري ان ندرك ان الدولة الفلسطينية تفقد سرعة مقدرتها على ادارة أمورها وتتجه نحو واقع اللادولة وبهذا الفقدان سوف لن نستطيع ان نسترجعه من دون خلق معالم مشروع وطني جديد يعالج أصل المشكلة ويعطي جرعات قوية لفك تعقيداتها والمضي سويةً لبنائها على أسس جديدة وصحيحة. قسم من هذه التعقيدات حقيقية وقسم اخر مختلقة، نحتاج أولاً ان نزيح هذا القسم المختلق من الازمات لكي نتفرغ معاً للمعالجات المهمة الجوهرية لبناء فلسطين الغد سويةً.

من وجهة نظر البعض قد يُنظر لما اثرت اعلاه كأحلام، واقول ان الحلم مقدمة ضرورية للبناء، وان الحلم هو ما يميز الانسان عن غيره، وأنه النعمة الربانية لتغيير الواقع نحو الافضل. هذا الحلم قد يأخذ زمناً طويلاً ولكنه ممكن الحدوث وليس مستحيلاً ويجب ان نفَّعله ونترجمه الى الواقع ان لم يكن لنا فلأبنائنا واحفادنا.

ما حاولت ان ابينه اعلاه، يمكن تسميته بميثاق شرف وطني فلسطيني، او مسودة دستور، او معالم عقد اجتماعي جديد، او حلم مشترك عند اغلب الفلسطينيين الذين يريدون ان يعيشوه، او معالم خارطة طريق سياسية جديدة اذ كلها تصب في خانة تقوية المواطنة وايضاح لمعالم العقد الاجتماعي الصحي بين المواطن والدولة.

وليس مهم الاسماء والمسميات ولكن بالنتيجة كل الرسالات السماوية والربانية والانسانية ابتدأت بحلم وتم ترجمتها الى الواقع بسواعد ابنائها، فلنكن بقدر المسؤولية والقدر والدور التاريخي المطلوب منا، فالبحث عن الحل واتفاق على أسس ترسيخ وئام إجتماعي وسياسي وطرح برامج سياسية لتقريبنا من احلامنا هو مفتاح لجميع الابواب المغلقة في فلسطين اليوم وهو الخطوة الاولى قبل اي تحرك لبناء أساس متين وقوي وذي جذور عميقة لوطن متماسك يضم جميع الاطياف والمكونات بألوانها كافة. فما علينا الا العمل المشترك بين جميع الوان الطيف السياسي والوطني.

خلاصة القول، ان الشعب الفلسطيني قادر على تقديم مأثرة تصالحيه كبرى قائمة على تحقيق العدالة والرحمة وكنس ذكريات الدم والقسوة وذكريات العهد الإنقسامي من تاريخ فلسطين إلى الأبد، لكن وجود نظام ديمقراطي مستقل وذا سيادة حقيقية وكاملة منتخب من قبل الشعب هو الأساس المتين الذي يمكنه القيام بعمل تاريخي هائل كهذا العمل الهادف إلى تحقيق العدالة وإنصاف ضحايا القمع وتكريم شهداء الحرية وتجسيد مصالحة وطنية حقيقية عبر آلية: العدالة أولا ثم المصالحة والعفو لمن يستحقه.

وعلينا ان نؤكد ونركز على ان المصالحة والمصافحة ليست الهدف النهائي لهذه المبادرات بل الهدف الاسمى هو التآخي والتوحد حتى نصل الى شعب واحد موحد يُؤمن بحق كل مواطن فيه ويضع نصب عينيه خدمة الوطن والنهوض به الى مصافي الدول المتقدمة ونصل الى دولة سلمية مسالمة لا وجود فيها لانقلابات او مؤامرات او إنقسامات.


بقلم / رامي الغف*
*إعلامي وباحث سياسي