سؤال كبير، يحيل إلى منظومة من العلاقات الثّقافيّة والتّاريخيّة والسّياسيّة، تلك العلاقات الّتي مرّت بكثير من المنعطفات ودخلت في دهاليز، كان فيها ما فيها من دم، ولكن كان فيها من الجمال أيضا، لا يقلّ دلالة وحضورا وإشعاعاً، بعيدا عمّا يبذر اليوم في الفضاء السّياسيّ والاجتماعيّ والدّينيّ الطّائفي من عناصر فرقة مفتعلة.
لقد شكّلت الثّقافة العربيّة بلغتها الحيّة رافدا مهمّا من روافد الأدب الإيرانيّ حاليّا والفارسيّ قديما، إذ إنّ هناك العديد من المطبوعات العربيّة من الصّحف والمجلّات داخل إيران وتصدر في العاصمة طهران، وأولت الجامعات الإيرانيّة اهتماما بتعلّم اللّغة العربيّة، بل إنّ الأدباء العرب الّذين انحدروا من أصول فارسيّة كان لهم بصمتهم على الأدب العربيّ، وما زال العرب يذكرونهم كمنارات إبداع مشعّة كابن المقفّع وبشار بن برد وأبي نُوَاس وعمر الخيّام وحافظ الشّيرازيّ، ولم يقتصر الأمر على الأدباء بل إن "سيبويه" أشهر علماء النّحو العربيّ كان من أصول فارسيّة، والشّيء نفسه يقال عن الأطبّاء والفلاسفة والوزراء والحكّام، وما زال أثر البرامكة واضح البصمة في تاريخ العرب الزّاهر، مهما اختلفنا حولهم، فلم تخل دولة من الدّول من صراعات دمويّة حول الحكم قديما وحديثا، سواء عند المسلمين والعرب أم عند غيرهم.
ضمن هذه العلاقة الممتزجة بين العنصرين المبدعين؛ العربيّ بخياله ولغته ومخزونه المعرفيّ، والفارسيّ بذكائه وحكمته ونظرته الثّاقبة، تخلّقت مجلّة المداد الثّقافيّة ومجلّة "حبر أبيض"، عربيّتا اللّغة والهوى والرّسالة، بهيئة تحرير عربيّة، لتؤديا رسالة مهمّة في تأكيد عروبيّة الثّقافة والفكر في هذه المنطقة من العالم الإسلامي (إيران)، وتحديدا في منطقة (الأهواز) العربيّة، حيث تصدر المجلّتان، ولتعرّف قراءهما وكتّابهما على متانة العلاقة الفكريّة الضّاربة بجذورها العميقة في أصول التّاريخ العربيّ الّذي لم يكن صنيعة العرب وحدهم أو الفارسيّين وحدهم، أو اقتصرت على المسلمين دون غيرهم، بل اشتركت في صياغته كلّ الأجناس البشريّة الّتي ارتضت الانتساب إلى هذه الحضارة العريقة، الموصوفة مجازا أنّها عربيّة، وحقيقة كذلك، باعتبار اللّغة العربيّة الّتي كانت حاملا لكلّ أفكار المبدعين والعلماء من مصر إلى بخارى، ومن بغداد إلى طهران لتعمّ العالم أجمع، ممّن ارتضى العربيّة لغة إبداع وتجلٍ فكريّ ووجوديّ، أوَ ليس كلّ من تكلّم العربيّة هو عربيّ، كما أقرّ بذلك نبيّ الإسلام عليه أفضل الصّلاة والسّلام؟
لقد اهتمت هاتان المجلّتان؛ مجلّة "حبر أبيض" الّتي اختصت بقصيدة النّثر، إبداعا ودراسات وشعراء، ومجلّة المداد الثّقافيّة المتنوّعة في مادّتها الثّقافيّة بين الشّعر والسّرد، بكلّ تلك العناصر الإبداعيّة، فنشرتا على امتداد أعدادهما، ضمن رؤية خاصة لكلّ منهما، نصوصا لكتّاب عرب ونقلت إلى العربيّة نصوصا لأدباء أكراد وإيرانيّين وغير ذلك، لتزيد بذلك التّنوّع الثّقافيّ العربيّ وانفتاح آفاقه الّتي لن تغلقها السّياسة مهما حاولت إلى ذلك سبيلا، ففي هذا التّجاور الجميل لكلّ هؤلاء الكتّاب، وامتزاج كلّ تلك الأفكار ليضع القارئ في مزيج من الحضارة الحيّة بتنوعاتها الفكريّة وأمزجتها الكتابيّة الّتي ظهرت في الشّعر بتنوّعاته المختلفة، والنّصوص السّردية القصصيّة، والمقالات الّتي تعالج كثيرا من قضايا الإبداع الرّاهنة، إلى محاورة الكتّاب، للاقتراب من عوالمهم، والدّخول إلى أعماق مصادرهم الإبداعيّة الّتي نهلوا منها الماء الصّافي المقدّم في كؤوس من النّشوة الخالصة إبداعا، تطرب له النّفس، وتترك للعقل حريّة التّفكير والانطلاق في التّحليل.
لكلّ ذلك المذكور آنفا، والمسطور في أعداد هاتين المجلّتين الفتيّتين، ليقدّم مسوّغ وجودهما النّابض، ويمنحها القوّة، لتزيد المشهد الأدبيّ العربيّ الإنسانيّ حضورا، إلى جانب مثيلاتها من المجلات الثّقافيّة العربيّة وغير العربيّة، ليس في إيران وحدها بل لتعمّ العالم أجمع، سواء أكان هذا الحضور ورقيّا كما هو الحال في مجلّة "حبر أبيض" أم الاكتفاء بالنّشر الإلكترونيّ الّتي اتخذته مجلّة المداد وسيطا حيّا بينها وبين قرّائها على امتداد البقعة العربيّة المترامية الجعرافية، والحافلة بالتّنوع والمفضي إلى الإنسجام والتّآلف مع ثقافة كونيّة لا تعترف بالانغلاق أو الحدود.
فراس حج محمد