يصعب الحديث عنك، سماحة السيد، بصيغة الماضي، لان حضورك الباهر باقٍ وتأثيرك الفكري راسخ، وخلال شهر رمضان المبارك كنت شريك الهلال في الحضور وموعد الناس مع العيد..
ويشرفني أنك كنت تخصني باللقاءات التي تشبه البوح او النقاش مع الذات، فأفيد منك مزيداً من العلم والقدرة على التحليل والفهم الاعمق للدين عبر العقل والمنطق وليس من خلال الغيبيات والايمان الصوفي.
يشرفني أيضاً أن استذكر هنا، مع السادة من ابنائك العلماء ويتقدمهم بكرك السيد علي بعض ما احفظه عنك ومنك خلال اللقاءات العديدة التي تكرمت فخصصتني بها، وأسريت لي خلالها بعض ما لا تعلنه خوفاً من الفتنة او تحاشياً لسوء التفسير..
ويسعدني أن التقي هنا مع هذه الصحبة المطهرة من المؤمنين بك إماماً وهادياً بالعقل والسورة معاً، بمبادئ الدين الحنيف من دون غيبيات وأساطير تنكر على الرسول الكريم وصحابته الابرار انسانيتهم وترفعهم فوق البشر درجات بحيث يخرجونهم من الدين والدنيا ويصيرونهم اساطير خارج العقل والمنطق.
وبعض ما احفظه لك في اعماق ضميري وعقلي ووجداني أنك كنت تشرفني باتصال هاتفي مساء خميس تختاره لتستأذنني في أن تقتبس من افتتاحية كتبتها ذلك الصباح، لتستخدمها في خطبتك ظهيرة الغد، الجمعة.
وكنت، رحمك الله تخاطب الناس بعلمك الغزير، وعقلك المتمرد على البدع والطقوس الشكلية والهرطقات التي تلبس ملابس المقدس من الكلام، وتدعوهم إلى الثورة على كل ما يلغي عقولهم ويحول الايمان المبني على العقل إلى اساطير وبدع وتلفيقات لتنكر على الرسول العربي، الكريم وصحابته وأقربهم اليه الامام علي بن ابي طالب انسانيتهم وانهم يسكنون العقل لا العاطفة ويناقشون بالمنطق والعلم والفكر لا بالتعصب والغلو فيه.
سماحة السيد ـ المعلم الباهر في حضوره بعد الغياب:
لقد اعتدت أن ازورك مرة في الشهر، على الاقل، فان تأخرت اتصلت بتواضعك الجم معاتباً..
وكنت تشرفني بأن تفتح لي وأمامي عقلك وقلبك معاً، وتسألني عن جولاتي في البلاد العربية، ولقاءاتي مع بعض كبار المسؤولين فيها، ملوكاً ورؤساء وامراء ووزراء يشغلون مناصب حساسة يعبرون فيها عن مواقف قياداتهم.
وكنت سماحتك تبدي آراءك بصراحة في الحكام والمتحكمين بدنيا العرب، شرقاً وغرباً، وتُظهر لهفتك على مصر وإشفاقك من غياب دورها الذي يشكل مركز الاعتدال في الدين وجدارة المؤهل لدور القيادة، إن هو وعى تأثير مصر بتاريخها الغني وتجربتها الفريدة في بابها مع الدين الحنيف، اذ ظلت شيعية الهوى بالعقل والعاطفة وان كانت سنية المذهب بالدولة وادارتها.
أيها الاصدقاء،
يشرفني أن استذكر بعض المواقف السياسية لهذا السيد القائد، ثاقب الرؤية، بعيد النظر.
لقد كان سماحته معجباً بالقيادة الحكيمة للرئيس الراحل حافظ الاسد، وكان يتحدث عن صبره الطويل وحساباته الدقيقة حديثه عن عالم رياضيات وداهية في السياسة، يتمتع بميزة الهدوء العظيم والتأني في اتخاذ القرارات، تاركاً للخصم او العدو أن يتعجل فيتهور او أن يعقل فيأتي إلى الحوار، واثقاً من انه سيكسب الجولة في هذه الحالة.
وكان سماحته مقدراً لآية الله روح الله الخميني، ومسانداً من القلب للثورة الاسلامية في إيران، وليس سراً أن العديد من قيادات “حزب الله” قد نشأ في مدرسة السيد فضل الله وتتلمذ عليه.
أما في ما خص النظام اللبناني فقد كان سماحته يدرك أن الثورة عليه وتغييره بالانقلاب امر مستحل، وانه من الضروري مراعاة تركيبة البلاد السكانية، ومحاولة تطوير النظام من داخله.. والصبر طيب، والاصلاح التدريجي أفضل بالطبع من الفتنة.
أيها الأخوة،
اسمحوا لي أن استعيد هنا بعض ما كتبته في وداع المرجع ذي الصدقية الشرعية والشعبية، والقائد الذي نظف صورة الدين الحنيف من بعض ما علق به من تحريف وخرافات واساطير مسيئة إلى جوهره.
ولسوف يظل “السيد” حاضراً في يومياتنا باجتهاداته التي فتحت أبواب الدين أمام أبناء الحياة ليعيشوها متحررين من حكم الحاكم الظالم وعسف المحتل الدخيل، والمتاجر بالدين بحبسه في مجموعة من الطقوس التي تختلط فيها الخرافة بالبدعة من أجل الحجر على العقل، وتصوير الاعتراض على الخطأ وكأنه خروج على النص المقدس.
لقد قاد هذا النجفي المتحدّر من عيناتا (على التخم مع فلسطين) لأسرة من العلماء، مع بعض رفاقه المستنيرين، ثورة حقيقية في قلعة الفقه ومركز المرجعية هدفها الأساسي ربط الدين بالحياة، وتيسيره على المؤمنين، وجعلوه يحرّض على كسر النمطية والتقليد الجامد، ورفض الخنوع والاستسلام والتعامل مع الحاكم ـ مهما بلغ ظلمه ـ وكأنه ظل الله على الأرض والخروج على طاعته هو الكفر عينه.
تمّ تحرير النص الديني من بعض “الشروحات” التي كادت تقفل باب الاجتهاد، مداراة لحاكم عاتٍ، أو لتجنّب الصدام مع غاز محتل، أو بذريعة الامتناع عن التسبّب في فتنة، في حين أن الصمت عن الخطأ هو الباب إلى الفتنة.. أما “علماء السلطان” فكانوا لا يتعبون من تسخير النص الديني، بحسب تفسيرهم المخل، بمعناه الأصلي، لتبرير الظلم وكأنه قدر مفروض لا مجال لتحديه أو الخروج منه.
وعبر معارك قاسية، أعيد النص الديني، بتفسيره الصحيح، إلى خدمة الإنسان في يومه وفي غده، وعلى قاعدة أن الدين يُسر لا عُسر، وكذلك على قاعدة أن الله قد أكرم الإنسان فأهداه النجدين، فأُسقطت مجموعة من الطقوس والعادات التي أسبغت عليها صفة المحرّمات… فإذا بالإمكان ـ مثلاً ـ تحديد الموعد الدقيق، وبالثانية، لولادة القمر وغيابه، وتحديد بداية الشهر الهجري، وبالتالي أن يعرف المؤمنون يوم عيد الفطر المبارك فلا يظل ضائعاً عنهم أو ضائعين عنه كل سنة، بما ينذر بفتنة، بعدما تعدّد محدِّدو موعد بدء الصيام وختامه ـ العيد.
وعبر معارك أقسى أعيد إلى “الجهاد” معناه الأصلي، فإذا مقاومة المحتل، أي محتل، فرض عين، وإذا مقاتلته واجب شرعي، يستوي في ذلك الاحتلال الإسرائيلي، أو الاحتلال الأميركي، أو أي احتلال آخر لأي أرض عربية وإسلامية. وكيف يمكن لابن عيناتا الذي شهد مأساة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وخروج أهلها إلى شتات اللجوء أن ينسى أو يتناسى المأساة التي أسهمت في صياغة وعيه بالحياة.
صار الإيمان لازمة للتحرر والتحرير، التحرر من الخرافة والبدعة، وتحرير الأرض والإرادة من أي قاهر بالقوة أو بالخديعة وشق صفوف المؤمنين بتقسيمهم مذاهب وشيعاً وعناصر، مما يمكّن للمحتل ويشغل الناس بخلافاتهم “الفقهية”، وكثير منها من صنع قلة من المعمّمين الذين يزهدون بالدنيا تاركين الأمر لله، وبعضها الباقية من ابتداع قلة أخرى تأكل خبز السلطان وتفتي بأمره ولأمره.
ولقد كنا نقصد “السيـد” في أيام الشدة، وما أكثرها، لنثبت إيماننا بالإنسان وقدراته، ولنستنير بحكمته، ولنتعلم منه الصبر على الشدائد ومقاومة ما يُراد فرضه علينا. ولطالما قصدناه في زمن الحرب الأهلية من أجل تحرير “مخطوفين” لا ذنب لهم إلا أنهم قد يفيدون في “المقايضة” بمخطوفين آخرين، أو للضغط على هذه الجهة أو تلك من أجل قرار لا يعرفون ماهيته ومن يطلبه.
كذلك فلقد كنا نقصده طلباً لثقافة الحياة، وهو الشاعر، الناثر، الفقيه، القائد، المرشد، المصلح الاجتماعي والمستنير بإيمانه ومنير الطريق أمام الراغبين في الخروج من التيه إلى ميدان العمل من أجل غد أفضل للإنسان في وطنه.
لقد جعل السيد محمد حسين فضل الله “المرجعية” حاضرة في حياتنا اليومية، تؤكد أن الإنسان هو الأصل، وأن الدين دليله إلى حقوقه وفي طليعتها حقه بالحياة الكريمة، والتحرر من كل ما يهدر إنسانيته سواء أكان حاكماً ظالماً أم متحكماً جاهلاً أو مستعمراً دخيلاً، وكل أولئك يسخر الإنسان ـ والوطن ـ لخدمته، بفرض الجمود على العقل بإرهاب التحريم والتكفير ممالأة للسلطان محلياً أو محتلاً أجنبياً.
أيها “السيد” عزاؤنا، في نهجك، وفي مؤسساتك الناجحة وهي تعمل في خدمة الإنسان، وفي تراثك الغني وقد تركت لنا مكتبة عظيمة فيها إلى جانب شروحاتك العصرية للدين وتعاليمه بالاستناد إلى العقل والمنطق مؤلفاتك في الثقافة وعلوم الحياة إضافة إلى دواوينك التي تجعلك تحتل موقعاً بارزاً بين شعراء عصرنا.
لقد أغنيتنا في حياتك بحياتك، وبنتاجك الغني، وبمنهجك العقلي والعصري في فهم الدين وتوكيد ارتباطه بالتقدم الإنساني، وها أنت تترك لنا ما تنتفع به الأجيال القادمة، ثقافة وعلماً وإيماناً.
فليباركك الله مرجعاً يرشدنا إلى طريق التقدم ويعزز فينا إحساسنا بكرامتنا كبشر وكأصحاب قضية تستحق أن نجاهد من أجلها… وأنت القدوة اليوم وغداً وفي كل زمان.
وليحفظ بيتك، بيت النور، واهلك وانجالك جميعاً يتقدمهم سماحة الامام السيد علي محمد حسنين فضل الله، ولتبق ذكراك منارة تضيء لنا الصراط المستقيم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كلمة القيت في الذكرى السابعة لوفاة العلامة السيد محمد حسين فضل الله في مجمع الحسنين في2017/7/4