كانت رائحة البرتقال تملء شوارع غزة من جنوبها الى اقصي شمالها وتنبعث رائحته من كل الحقول الكبيرة والصغيرة وتصل الى الازقة والشوارع والاحياء في الربيع عبير زهورها يعطر النسيم الذي ينبعث من اتجاه الشمال وكأنك في حديقة كبيرة اسمها غزة زمان كان اكثر من ذلك كان طعم البرتقال مختلفا وحتى لونه مختلفا زمان كانت الاسر لا تبذل جهدا للحصول على البرتقال فمن يمتلك الحقول يهدي لمن لا يمتلك كميات قد تكفيه شهرين او اكثر لم يوقف الحال عند البرتقال فكثير من شؤون حياتنا تغيرت واصبحت وكأنها غريبة على واقعنا الفلسطيني بل وما زال الكل لا يصدق هذا ولا يعترف بهذا وقد يكون في حالة ذهول مما حدث منذ عشر سنوات حتى الان لم يتغير طعم البرتقال فقط بل الحقيقة التي لا يمكن ان ينفيها احد ان كل شيء تغير طعمه حتى طعم القمح والخبز البلدي وكل شيء حتى وصل الامر للعادات والتقاليد والتوجهات الاجتماعية وضعفت الروابط الاجتماعية وتهتكت خيوطها وانقسمنا و اصبح لكل منا وطن في وطن يغتصب امام عيوننا في كل حين.
زمان كنا لا نقيم عرسا لمده اربعين يوما اذا ما توفي احد الجيران ولا نفتح التلفاز الا على نشرة الاخبار واذا جاءت بالصدفة موسيقي نجعل صوت التلفاز بمستوي الوشوشة حرصا على مشاعر الجيران المكلومين الذين لن يسمعونا لانهم في الحي المجاور زمان كانت امي تعد ابريق الشاي بالنعناع وترسله معي للعمال الذين يكسروا الصخور البحرية لرصف الشارع كان معظمهم من صعيد مصر الحبيبة يغنوا اغاني جميلة نشعر وكأننا امة واحدة زمان كانت الجارات يجلسن على الشارع مفترشين التراب ويوزعن الحلوى على الاطفال الذين يلعبوا طاق طاق طقيه كانوا لا يجلسوا عبثا بل هو اجتماع كابينت الحارة الذي يحمي رماة الحجارة من قوات الاحتلال فكان كل الابناء ابنائهن كانوا يتحسنن هموم كل الجيران وينتقلن من بيت الى اخر يخففن عنهم ويؤازرهن في مصابهم زمان كانت النساء تحملن رطل اي ثلاثة كيلوات من السكر لتهنئة الجيران بأفراحهم ومنهم من يأخذ الرز او الحلوى ان استطاع كانت لا تنقطع الزيارات ولا يتحدثن النساء في غير تقوية الروابط الاجتماعية والالتقاء عند فلانة بعد ايام لتجهيز المفتول لوليمة عرس ابنهم الذي سيتزوج ويبقي مع العائلة ولن يغادرها لأنه لا يريد ان يذهب والده الى الحقل دونه زمان كانت حفلات الزواج تراثية ولا مجن فيها ولا تكاليف مدمرة لكل من العروسين زمان كانت الشوارع ملئ بالمبتسمين اصحاب الوجوه التي تشرق نورا كلما مررت عنهم اقسموا عليك زيارتهم وممالحتهم بزادهم وشايهم زمان كان الحب عتيقا لا ابتذال ولا تكلف فيه كان على سليقته نابعا من القلب للقلب .
زمان كنا نحب الزعماء ونخلص اليهم ولا نسمح لاحد ان يسب او يشتمهم كانت العروبة فخر والقضية عنوان كل حديث وفلسطين كل فلسطين انتماء كان يجمعنا الراديو على نشرة اخبار صوت العرب ورسائل اذاعة صوت فلسطين صوت الثورة الفلسطينية الثورية التي ننتظرها كل مساء وظهر كل يوم جمعة يعلوا صوت امال فهمي في برنامج على الناصية وكانت دموع ابي لا تتوقف كلما تحدثت عن حالة الشارع المصري كنا لا نفهم في كثير من الاحيان دموع ابي لكنا اليوم فهمناها عندما تغير طعم كل شيء حتى طعم فلافل العم ابو حامد الاصيل . وكانت الصحف تحمل اخبار كل الدنيا وكانت رسائلها وطنية بامتياز هادفة صادقة لا تخبئ خلفها اجندات مخيفة او تعمل لحسابات تتربص بوحدة الامة ورايتها و كلمتها كانت المقالات تكتب بكل معاني الانتماء الوطني للأرض والشعب والوطن ولا يكتبها من يبحثوا عن وظيفة عند السلطان او جاه عند ذلك الحزب الذي لا يعترف مناصريه ومنتسبة الا بأنفسهم ولا نسمع بين السطور رسائل التخوين والتكفير وبيع الوطن كنا جميعا نرسم صوارا مشرقة للتضحية والنضال لا يعرف عنها الا انفسنا لأننا لا نتباهى بما نفعل ولا نتحدث بما يجري حتى لا نخدم من يتربصوا بنا .
نعم تغير طعم البرتقال لان الاخ قتل اخيه وضرب الابن ابيه واسقطه ارضا وطالب له بطبيب نفسي لعلاجه لأنه فاقد الاهلية بل وتأمر مع كل الدنيا ليبيعه باي ثمن ليرث هو كل شيء تغير طعم البرتقال لان كل حزب اصبح بما لديهم فرحون واختزلوا الوطن في راية الحزب والقدس باتت بلا نصير تئن من الوجع ليل نهار تسرق وتهود وتدنس مقدساتها مساجدها وكنائسها تغير طعم البرتقال لان البندقية اصابت صدر الفلسطيني ومزقت فؤاده وسال الدم في الطرقات وتاهت البندقية عن الطريق واصبحت بلا بوصلة تقاتل خارج ارض المعركة تغير طعم البرتقال لأننا اقتسمنا وطنا محتل وذهبنا به بعيدا وبني المحتل على ما فعلناه بأنفسنا واصبح تعتبر كل محاولات استعادة الوحدة حربا ضده تغير طعم البرتقال لان ولاة الامر ميزوا بين ابناء الوطن واصبحت الحياة تمنح على اساس الانتماء السياسي تغير طعم البرتقال عندما جاءت كل الدنيا وكل العرب وكل الفلسطينيين للم الشمل الفلسطيني وفشلوا مرات ومرات تغير طعم البرتقال عندما بنينا تحالفات تبقي الانقسام وتزيد المعاناة وتقتل اي امل في ان يعود طعم البرتقال فلسطينينا غزيا كالذي عرفناه قديما ومازال طعمه في افواهنا ورائحته تملء الدنيا .
بقلم/ د.هاني العقاد