الخليل تراث المقاومة والحرية

بقلم: الياس خوري

في الخبر الذي نشرته صحيفة "هآرتس" عن قرار اليونسكو بإدخال مدينة الخليل في لائحة التراث العالمي بصفتها مدينة فلسطينية يتهددها الاحتلال، روت الصحيفة عن مشادة حصلت قبل التصويت بين المندوب الإسرائيلي لدى اليونسكو شاما هاكوهين ومندوبي فلسطين ولبنان. الصحيفة مرت على المشادة التي حصلت بين النقيب جاد تابت (ممثل لبنان في لجنة التراث العالمي) وسفير فلسطين في اليونسكو الياس صنبرمن جهة والسفير الإسرائيلي من جهة أخرى مرورا عابرا. فالمشادة لم تكن سوى التعبير الأكثر وضوحا عن صلف المندوب الإسرائيلي وعنصريته ووقاحته، الذي لم يجد ما يقوله أمام الملف الممتاز الذي أعده جاد تابت سوى التهديد والشتائم والاتهام باللاسامية والتركيز على مرحاض منزله المعطّل، مشبها مصير قرار اليونسكو بمصير البقايا التي يبتلعها المرحاض!
لم يتوقف السفير الإسرائيلي مدعوما بالأمريكيين عن التلاعب بكل شيء، طلب من الحضور الوقوف دقيقة صمت لذكرى ضحايا المحرقة النازية، وعندما طلبت المندوبة الكوبية الوقوف دقيقة صمت لذكرى ضحايا الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين رفض أن يقف. حاول منع التصويت، وقبل ذلك قام سكرتير اللجنة بالتلاعب بمحتوى القرار قبل أن يجبره جاد تابت على سحب تعديلاته، ثم طالبت إسرائيل بتصويت سري، وبعد كل ذلك انتصرت أغلبية الثلثين للقرار، وصارت المدينة القديمة والحرم الإبراهيمي على لائحة التراث العالمي كأرض فلسطينية.
تحية للمعماري اللبناني جاد تابت الذي أشرف على إعداد الملف وتوثيقه مقدما صورة بهية عن دور المثقف في مقاومة الاحتلال والتمسك بالقيم الأخلاقية والدفاع عن الحقيقة والحق.
تسجيل الخليل القديمة والحرم الإبراهيمي على لائحة التراث العالمي كمكانين مهددين من قبل قوة احتلال غاشمة يشكل انتصارا للمدينة النكوبة فلقد جعلت إسرائيل من مدينة الخليل مختبرا لعنصريتها، حيث قامت الدولة العبرية بتأسيس بدايات نظام الابرتهايد (الفصل العنصري) على أشلاء ضحايا مجزرة الحرم الإبراهيمي. فالمجزرة التي ارتكبها العنصري الإسرائيلي باروخ غولدشتاين عام 1994، كانت نقطة التحول الكبرى التي قادت إلى تقسيم الحرم بين المصلين اليهود والمسلمين، وبداية العهر الاستيطاني الذي يهدد المدينة القديمة بالشلل.
قرار اليونسكو يحمل طابعا أكثر من رمزي، فالصراع مع الصهيونية يدور على كل الجبهات، وفلسطين المنكوبة باحتلال استيطاني اسس التطهير العرقي عام 1948، تجد اليوم نفسها أمام مرحلة جديدة عنوانها تحول إسرائيل إلى دولة تمييز عنصري، ما يستدعي إعادة قراءة عميقة للواقع الفلسطيني من أجل تجديد المقاومة، التي ترهلت وخمدت على إيدي القوى المتسلطة في رام الله وغزة.
نعود إلى كراكوف حيث عقد اجتماع لجنة التراث العالمي، وكراكوف مدينة شهدت الهول النازي، وهي المدينة الأقرب إلى معسكراوشفيتز، الذي تحول إلى متحف للكارثة يزوره مئات الألوف كل عام.
كالعادة حاول المندوب الإسرائيلي استغلال المكان، كأن ضحايا اوشفيتز يرضون لذكراهم بأن تتحول أداة لقمع الفلسطينيين واستباحتهم؟ ذكرني خطاب السفير الإسرائيلي بالمناضل المغربي الراحل ابراهيم سرفاتي الذي روى أن والده حذره، حين كان طفلا، من الصهاينة لأنهم أعداء اليهود.
الصهاينة بخطابهم الفاشي ليسوا أعداء الفلسطينيين والعرب فقط، بل هم أعداء اليهود أيضا، وهذا ما أثبته السفير الإسرائيلي حين تصرف كالزعران، وتكلم ببذاءة وصلافة عندما خانته الحجج المنطقية.
المهم أن الخليل انتصرت، فهذه المدينة المنكوبة بـ 500 مستوطن حولوا حياة مئتي الف مواطن فلسطيني إلى جحيم، هذه الدرة المعمارية المملوكية باحواشها الساحرة، مهددة بالاستيطان الذي حول شارع الشهداء، الذي يشكل شريان المدينة الحيوي، إلى شارع أشباح. مدينة المقاومين الذين يضطر بعض سكانها إلى الطلوع إلى سطوح الأبنية من أجل الوصول إلى بيوتهم، المدينة التي يرمي فيها المستوطنون زبالتهم على الناس. هذه المدينة قاومت بناسها وتراثها المعماري.
في الخليل والقدس تدور معركة الاستيطان الكولونيالي مع تراث فلسطين وعمارتها، وهنا تأخذ الوحشية أشكالا متعددة، لكن هنا أيضا تعلم الناس صناعة المقاومة اليومية، وأسسوا لفن البقاء.
حين نتأمل في شرعية مقاومة هاتين المدينتين وبهائها، يصيبنا الحزن على مدن المشرق العربي التي دمرها الاستبداد الوحشي. حلب شقيقة القدس في الجمال صارت ركاما، وحمص مدينة الحجارة السوداء صارت مدينة أشباح وخراب، والموصل لم يبق فيها سوى الأنين.
والمعركة واحدة هنا وهناك، لكن مأسوية العجز العربي، وسفاهة أنظمة الاستبداد البربري ونذالة الصهاينة، تجعل من مقاومة الخراب والدفاع عما تبقى من الحياة عنوان حياتنا أو ما تبقى لنا منها.
تحية إلى الخليل وإلى فريق العمل الذي صنع مع جاد تابت لحظة اليونسكو.

 الياس خوري